سُقوط الأَسَد: السّياقات.. والتّأثيرات؟

8 ديسمبر/كانون الأول 2024، سيُحفظ جيدًا في كُتب التاريخ، ليس فقط لأنه شهد حَدَث إسقاط نظام الأَسَد في سوريا بعد أكثر مِن نِصف قرن على حُكمها بالنار والحديد، بل أيضًا نظرًا لدراماتيكية السقوط وطريقته في خضم ثورة دامت 13 عامًا، إضافة إلى ارتباط ما جرى حتمًا بسيرورة أحداث سبقته في منطقة الشرق الأوسط عمومًا خلال 14 شهرًا، عدا أن الحديث هنا عن العاصمة دمشق التي تتمتّع بقيمة استراتيجية وتاريخية خاصة، وكلّها عوامل تجعل انعكاسات هذا الحدث كبيرة على المنطقة برمتها.

دفعت هذه العوامل والظروف مجتمعة اللاعبين الإقليميين والدوليين إلى التسابُق على محاولة تجيير الحدث التاريخي، كلٌّ بما يخدم مصالحه، سواء بمساعي التأثير المباشر على رسم شَكل سوريا الجديدة، بما يخلق واقعًا استراتيجيًا لصالح هذه الجهة أو تلك، أو بإعادة تموضُع المواقف والعلاقات مِن قبل الأطراف المتضررة (روسيا وإيران وحلفائهما) مع حكّام سوريا الجدد.

وقَبل قراءة تداعيات هذا الحدث وتأثيراته، لا بد من فهم سياق موقِعة سقوط الأَسَد. لا جدال في أنّ الأحداث الكبيرة التي وقعت خلال الفترة الزمنية (سنة وشهرين)، بدءًا من الحرب على غزة، وما رافقها من حرب واسعة على حزب الله في لبنان، أسفَرت عن اغتيال أمين عام الحزب حسن نصر الله، وقادةٍ مركزيين ومؤسّسين فيه، حتى تمخضت أخيرًا عن اتفاق لوقف إطلاق النار، إلى جانب تكثيف الضربات الجوية الإسرائيلية على المصالح الإيرانية في سوريا، وكذلك اللكمات المباشرة بين تل أبيب وطهران.. كلّها وَقائع أسّست لحالة من التغييرات التكتيكية والاستراتيجية في المنطقة، على نحو خلقت أساسًا للمقايضات وإعادة تَمَوضع المصالح والمواقف والعلاقات، والتي نتج عنها سقوط الأَسَد بهذه الطريقة الدراماتيكية المتسارعة. ويُضاف إلى كلّ العوامل الإقليمية المستجِدة، عوامل ذاتية لنظام الأَسَد نفسه الذي أصبح ضعيفًا ومترهلًا، وارتهن وجوده بحماية الروس والإيرانيين فقط، وَسَط انقسامه عموديًا في السنوات الأخيرة بين موالٍ لإيران وآخر رافض لوجودها في سوريا.

وتفيد المعطَيات السياسية أن علاقة طهران ببشّار الأَسَد شهدت توترًا لافتًا في السنة الأخيرة؛ نتيجة الخلاف على ملفّات متعددة، وقد كان من بين مظاهرها أن التلفزيون السوري الرسمي لم يبُث خطابات أمين عام حزب الله حسن نصر الله قبل اغتياله. وهنا، يُطرح سؤال مَفاده: هل شعرت إيران أن الأَسَد يَستعد لمقايضات دولية تهدد مصالحها ووجودها في الأراضي السورية، لدرجة عدم حمايته من السقوط؟.. تبدو الإجابة رهنًا لما ستكشفه التسريبات عن ذلك بعد حين!

وبالطبع، لا يُمكن إغماض العين عن عامل سوري ذاتي آخر، تمثّل برفض بشّار الأَسَد الحلول السياسيّة المطروحة إقليميًا ودوليًا مع المعارضة، ما ولّد يأسًا لدى السوريين الذين لديهم مظلومية وثأر كبيران مع نظامٍ قمعهم عقودًا بحجة "قضية فلسطين"، وبالتالي فإن غياب الآفاق السياسية دفع فصائل المعارضة السورية إلى اقتناص الفرصة الإقليمية النادرة التي توفّرت، فكان تحرّكها السّريع لإسقاط الأَسَد، بغض النظر عن أي مساعدات إقليمية عسكريًا واستخباراتيًا وسياسيًا، والحديث هنا عن تركيا.

وأما الآن، فأنظار القريب والبَعيد مُصوّبة نَحو دمشق ما بعد الأَسَد، وتحديدًا قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، الذي كان معروفًا بلقبه الجهادي لسنوات "أبو محمد الجولاني".

ولَو بدأنا بإسرائيل، فإنها تنظر بحذرٍ إلى الشرع، باعتباره جهاديًا إسلاميًا، وهي تزعم أن "خِبْرتها" بالجماعات الإسلامية، وخاصة الجهادية منها، تقودها إلى الخشية منها، لكونها تتبنى نهجًا "ذرائعيًا"، بمعنى أنها "تبعث برسائل طمأنة بشأن عدم رغبتها بالحرب والصراع، كوسيلة للتمكّن مِن الحكم، ثم تظهر وجهها الحقيقي المعادي لإسرائيل"، بحسب ما يجول في ذهنية الدوائر الأمنية والاستراتيجية في تل أبيب، وهذا يعني أن الدولة العبرية تخشى من بروز نظام إسلامي في دمشق يحلّ محل إيران ومجموعاتها، على نحو يتمّ فيه استبدال خطر "الشيعيّة السياسية" بخطر آخر تقوده "السنيّة السياسية"، وإن اتخذ النظام الجديد النموذج الإسلامي التركي.

وبِعيون الاستخبارات الإسرائيلية، فإنها ترى في واقعة سقوط الأَسَد، فائدة لها بنسبة 60 بالمئة، وخطرًا عليها بنسبة 40 بالمئة، بحسب ما أوردته أقلام إسرائيلية مقرَّبة مِن الأجهزة الأمنية. وبتفسير مجرّد لمعنى الفائدة المزعومة، فإن تل أبيب "ارتاحت" مِن انتهاء الوجود الإيراني في سوريا، كما أنها سارعت إلى التذرّع بسقوط نظام الأَسَد للتملّص من اتفاق "فضّ الاشتباك"، تحت عنوان أن النظام الذي اتّفقت معه بشأن الهُدنة قبل خمسة عقود قد سقط، وراحت بهذه الحجّة، إلى السيطرة سريعًا على نقاط استراتيجية سورية في جبل الشيخ، وتنفيذ توغّلات في قرى سورية جنوبية، بموازاة حملة جوية مكثفة للقضاء على كافة الأسلحة الاستراتيجية السورية؛ لمنع امتلاكها من السلطات السورية الجديدة، وخاصة ما تصفه التيّار "الجهادي"؛ بحجة أنه قد يستخدمها ضد إسرائيل، ولو بَعد حين.

وإلى جانب هذا، تُواصل الدوائر الأمنية الإسرائيلية تحليل لغة الجَسد واللسان لأحمد الشرع، مُستعينة بالعودة إلى أرشيفه، وكيف تحوّل من بائع خضار إلى "جهادي" قاد عملية إسقاط الأَسَد. ولعل ما يُقلق هذه الدوائر الإسرائيلية هو أن الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت عام 2000 قد شكّلت محطة تَحوّل في شخصية الشرع الذي نزحت عائلته من الجولان عام 1967 إثر الحرب مع إسرائيل. وكان عُمر الشرع حينما اندلعت تلك الانتفاضة 18 عامًا، وكانت الأخيرة دافعًا لتزايد "تعاطف" الشرع مع القضية الفلسطينية، واهتمامه بأخبار الشرق الأوسط، وفق المزاعم الأمنية الإسرائيلية.

ولمّا سقطت بغداد تحت الاحتلال الأميركي، واكبت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التغيّرات على شخصيّة الشرع عندما دَخَل إلى العراق لقتال الجيش الأميركي تحت مظلّة الجماعات الجهادية، مرورًا باعتقال القوات الأميركية له عام 2005 ووضعه في سجن على الحدود العراقية الكويتية مدةَ 5 سنوات. واللافت أن الأمن الإسرائيلي ركّز على ما كَتَبه الشرع في سجنه الأميركي في دفتر صغير مكوّن من خمسين صفحة، مدعيًا أنه دَوّن فيه رؤيته لإسقاط بشّار الأَسَد، كما عبّر فيه عن استنتاجه الرئيس المبّكر، وهو أنه "لا ينبغي تشجيع الحرب بين الطوائف المختلفة، لأن سوريا عبارة عن فسيفساء طائفية وإثنية ضخمة". ثم راحت إسرائيل إلى مواكبة تطوّرات شخصية الجولاني خلال سنوات الحرب بسوريا، وصولًا إلى بروزه كشخصية "مخلّصة" للشعب السوري من نظام الأَسَد أخيرًا، في حين وصفت مقالات إسرائيلية هذا الشخص بأنّه "ذئب في ثوب حَمَل"، وذلك في معرض قراءتها رسائلَ الطمأنة التي يبعث بها إلى الداخل والخارج.

ووسط توجّس إسرائيل من الإدارة السورية الجديدة، فإنّها تتعامل مع افتراض آخر أيضاً، وهو أن يَعقد الشرع اتفاقات مَصْلحة "سرًّا" مع إيران وحلفائها رغم العداء بينهما، بحيث تقود إلى مواصلة الخطر الإيراني على إسرائيل، بشكل وأسلوب جديدين، بموازاة فرضيّة استمرار "تهريب" أسلحة لحزب الله عبر "سوريا الجديدة"، وهي مجرد فرضيات إسرائيلية مزعومة، تحاول إسرائيل استغلالها لتبرير احتلالها أراضيَ سورية جديدة، وقصفها مواقع عسكرية هناك، بغض النظر عن صحّة الفرضية من عدمها.

بهذا المعنى، لا يوجد شيء يقيني بالنسبة لإسرائيل بخصوص سيناريوهات الحكم بسوريا بَعد الأَسَد، ولا حجم الخطر أو الفائدة، لكنّها ترى في ما جرى فُرصة لعدم انتظار حدوث أي سيناريو سوري، وفرض وقائع جديدة على الأرض. وهذا ينعكس أيضًا على شكل الشرق الأوسط الجديد، فهي تقول إنه يتشكّل بالفعل، لكن شَكله النهائي مرهون بمزيد من التطورات والصراعات لأجل غير مسمى.

وأما إقليميًا وغربيًا، فالكلّ ينتظر وجهة سوريا، وسط مباشرة أطراف غربية بينها أميركية، وكذلك إقليمية، في التواصل مع أحمد الشرع وجهات سورية أخرى، لفهم المرحلة التي ستذهب إليها دمشق، والوقائع التي ستترسخ في المنطقة على ضوئها.

في المحصلة، يمكن الاستنتاج بأن إسقاط الأَسَد يندرج ضمن تحوّلات متسارعة في المنطقة، ستصوغ مُجتمعةً شكلًا جديدًا لها، لكن يصعب الجزم بشكل التغييرات، خاصة أنها ما زالت في طور الحركة السريعة، التي لا يمكن فهمها إلا باكتمال حلقة الأحداث على صعيد المنطقة برمتها، وكذلك مصير المعركة الإيرانية الإسرائيلية التي لم تنتهِ بعد، بل يُرجح أن تكون العنوان الساخن لعام 2025.

وبهذا المنطلق، يبدو شعور الكثيرين باقتراب المنطقة من التشكّل النهائي بحلّتها الجديدة، ليس واقعيًّا، على ضوء الأحداث الكبيرة والمفاجئة التي حصلت خلال ما يزيد عن سنة.. ذلك أنّ دائرة الأحداث لم تكتمل، لا بسقوط الأَسَد، ولا اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، ولا الحرب على غزة، إذ إن المنطقة على موعد مع سنتين إضافيتين على الأقل، ستكونان مليئتين بالوقائع والمواجهات الدراماتيكية، وقد تكون أكثر صعوبة مما سبق، إلى حين بلورة التسويات الشاملة والثابتة في المنطقة.. ذلك أن التسويات والاتفاقيات الأقوى تولد مِن رحِم الأحداث المؤلمة والموجعة. والعين هنا مصوَّبة نحو الصراع الإسرائيلي الإيراني على النفوذ في المنطقة، فهو لم ينته بعد، كما يظن البعض، بل تتعامل طهران على قاعدة أن الضربات القاسية التي تلقّتها هي وحلفاؤها، تدفعها إلى إعادة التمَوضع، والعمل بطريقة مختلفة، وليس إنهاء مشروعها.

وهذا أمر تدركه إسرائيل، بدليل قولها إنها ستركّز في المرحلة المقبلة على إيران، بموازاة ضرب الحوثيين في اليمن، وهذا يعني أن 2025 ربما سيكون عنوانها "مواجهة أكثر سخونة عسكريًا وسياسيًا" بين تل أبيب وطهران، عدا أن تقارير أميركية نوّهت أخيرًا بأن إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب تضع في حسبانها توجيه ضربة قاصمة للمشروع النووي الإيراني.

أدهم مناصرة

صحافي فلسطيني يعمل في الإنتاج الاخباري والسياسي التلفزيوني، إضافة إلى عمله معدا ومقدما لبرامج إخبارية وحواريّة إذاعية لنحو 15 سنة. كما يكتب باستمرار تقارير ومقالات سياسية واجتماعية، وأخرى ذات صلة بحرية الرأي في العديد من المواقع والصحف العربية والمحلية. وكان قد عمل مديرا لراديو يمن تايمز في العاصمة اليمنية صنعاء عام ٢٠١٣.

رأيك يهمنا