الانقِلاب في سوريا وتَداعِياته

انهار نِظام عائلة الأَسَد بعد 54 عامًا من السيطرة في إطار حزب البَعث دون قيود. في سنة 1970 أنهى حافظ الأَسَد فترةً مضّطربة من الانقلابات وعدم الاستقرار السياسيّ في البلاد، وذلك عقب هزيمة قاسية عام 1967 احتلّت خلالها إسرائيل مرتفعات الجولان.

بعد أحداث "الربيع العربيّ"، عمّت الفوضى في سوريا، وتدفّقت قُوى إسلاميّة متطرّفة من مناطق مختلفة في العالم العربيّ، بما في ذلك شمال إفريقيا. أسفرت الحرب الأهلية عن عشرات آلاف الضحايا، ونزح ملايين المواطنين من البلاد، بحثًا عن ملجأ في الدول المُجاورة وفي أوروبا.

دور تركيا في انهيار النظام السوريّ

أدّت المبادرة التي أطلقها الرئيس التركي أردوغان بدعم واضح مِن قَطَر وبالتنسيق مع الولايات المتّحدة، إلى سقوط النظام بشكلٍ مفاجئ ودون مقاومة تُذكر. يبدو أنّ الفساد والعُنف المُفرط في السجون السوريّة أفقد النظام الدعم الداخليّ والخارجيّ، بما في ذلك دعم حلفائه التقليديين (إيران وروسيا).

لم يكُن هذا التحوّل ممكنًا دون حرب إسرائيل ضد "حزب الله" والضربات القاسية التي تلقّاها الحزب وإيران نفسها. أدّت هذه التطوّرات إلى عزل النظام السوريّ وتركه بلا حماية، ممّا أتاح لأردوغان استغلال الوضع والتنسيق مع الأميركيين لتشكيل نظام جديد بقيادة “جبهة تحرير الشام” وزعيمها الجولاني، الذي كان أحد تلاميذ زعيم القاعدة أيمن الظواهري. كان الجولاني جزءًا من جبهة النصرة التكفيرية التي قاتلت "الكفّار"؛ أيّ كلّ من ليس مسلمًا سنّيًّا.

تأثير سقوط النظام على المنطقة

من الناحية الإستراتيجيّة، يُعتبر هذا الحدث بالغ الأهميّة لتركيا ومَكانتها كلاعب مركزي في الشرق الاوسط، والتي تسعى أيضًا لمواجهة الأكراد، وللعالم السنّيّ، حيث استعادت سوريا مكانَتها بين الدول السنّية وخرجت من دائرة النفوذ الإيرانيّ-الشيعيّ. يعزّز هذا الحدث عَزل إيران ويحدّ مِن قُدرتها على التوسّع في المنطقة، خاصّة في لبنان.

بالنسبة لإسرائيل، فإنّ التطوّرات تعتبر انتصارًا كبيرًا. فإلى جانب تقويض النفوذ الإيراني في سوريا، أدّى قَطع خط دعم إيران لـ "حزب الله" اللبنانيّ إلى تعزيز الأمن الإسرائيليّ على الجبهة الشماليّة لعقود قادمة.كما أصبح العراق أكثر قوّة في مواجهة إيران، ممّا يؤدّي إلى الحدّ من استخدام أراضيه لأغراض عسكريّة خارج إطار الدولة العراقيّة. وفعلًا بدأنا نسمع عن خروج "حزب الله- العراق" من دائرة المواجهة مع إسرائيل.

النظام الجديد في سوريا: مُستقبَل غامض

يثار الجدل حول طبيعة النظام الذي سيقيمه أحمد الشّرع (الجولاني) في سوريا. يبدو أنّ النظام الناشئ مدنيّ وغير عنيف، وهناك إشارات تشير إلى احتمال أن يكون معتدلًا وليس ديكتاتوريًّا. رغم ذلك، لا يُمكن التوقّع بأن يكون علمانيًّا أو قائمًا على قيم ليبرالية.

الغرب، بما في ذلك الولايات المتّحدة، متفائل بالنظام الجديد، ويُحاول تشجيع إسرائيل على الحوار معه. تَدعم تركيا هذا النظام وتَعِد الغرب بتنسيق أهدافه وطبيعته مع مصالحهم. هناك دافع مُشتَرك لهم وهو إعادة اللاجئين السوريين إلى وطنهم، خاصّة وأنّ تركيا تضمّ أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ، إلى جانب أكثر من مليون لاجئ في لبنان وسوريا، ممّا يشكّل عبئًا اقتصاديًّا كبيرًا.

إسرائيل، على ما يبدو، أكثر حذرًا. فهي بلا شكّ تحقّق مكاسب كبيرة من هذه الخطوة، حيث أعلنت أن هضبة الجولان ستظلّ جزءًا مِن إسرائيل إلى الأبد (وقد اعترفت الولايات المتّحدة بذلك)، كما أنها استولت على أراضٍ في الجولان لضمان أنّ النظام السوريّ لن يشكّل تهديدًا أمنيًّا لها في المستقبل من جبهة الجولان. إضافة إلى ذلك، من الواضح أنّ إسرائيل ستنعَم بالهدوء من الجهة السوريّة، ليس فقط بسبب أنّ سوريا مدمّرة اجتماعيًّا وأهمّ من ذلك اقتصاديًّا (الناتج المحلي الإجمالي للفرد فيها 358 دولارًا للفرد مقارنة بـ 50,889 دولارًا للفرد في إسرائيل). هذه دولة تَحتاج إلى أكثر من 300 مليار دولار للبناء والتعافي اقتصاديًّا، وسوف يأتي هذا التمويل بشكل رئيسٍ من دول الخليج، ممّا يضمن هيمنتها عليها، وهو ما يضمن أيضًا هدوءًا طويل الأمد لإسرائيل. إذا لم يكن هذا كافيًا، فقد دمّرت إسرائيل بشكل منهجي المكوّنات الهجوميّة للجيش السوري، ممّا يجعل من سوريا فعليًّا دولة منزوعة السلاح. لذا فإنّ الهدوء الأمني لإسرائيل من هذه التحرّكات سيستمر على الأقل عقدينِ من الزمن، حيث ستضمن إسرائيل هيمنتها في الشرق الأوسط بعد أن تهزم إيران نهائيًّا وتقلّل من التدخّل التركي المَكشوف في سوريا، كما نراه الآن، وخاصّة حربها ضِد الأكراد. وبهذا ستتمكّن إسرائيل من الحصول على دعم فعلي من الولايات المتّحدة ودَعم ضمني من بعض دول الخليج وعدد من الدول العربيّة من خلال وسائل دبلوماسيّة صارمة، التي ستستخدمها ضدّ تركيا في هذا السياق.

التحدّيات المستقبلية

أما بالنسبة لطبيعة النظام في سوريا، فإنّ الإجابة على هذا السؤال صَعبة في الوقت الحالي. فالإشارات حتّى الآن لا تدلّ بوضوح على الاتجاه المستقبلي للنظام بشكل مؤكّد. لذلك، علينا الانتظار حتّى تمرّ بعض المحطّات في تطّور النظام. أوّلًا، إقرار الدستور السوريّ الجديد. هل سيكون دستورًا حقيقيًّا، أم دستورًا شكليًّا وبدون قاعدة دستوريّة مُلزمة، كما هو الحال في الدساتير في العالم العربيّ؟ كذلك، يجب فحص مكوّنات هذا الدستور، هل يضمن المساواة في الحقوق لجميع المواطنين؟ هل سيكون له طابع عِلماني؟ هل سيضمن المساواة بين الجنسين؟ وهو أمر أشكّ فيه كثيرًا؟ وما سيكون طابع النظام، والعلاقات بين السلطات الثلاث، ومكانة الإعلام وغيرها؟

بعد ذلك، يجب أن نَفحص قوانين الانتخابات، هل ستكون حرّة، ومدى مصداقيتها من حيث حقوق التصويت والتمثيل وغيرها. كما أنّه من المهمّ فحص تشكيل الائتلاف بعد الأوّل من آذار 2025. هل سيكون ائتلافًا توافقيًّا، أم أنّه سيكون مبنيًّا على تفضيل بعض المجموعات على أخر؟

إذا فحصنا الأمور بناءً على تقاليد الحركات الإسلاميّة التي وصلت إلى الحكم، فإنّ معظمها وعدت بنظام معتدل ومُحترِم لحقوق الإنسان والمواطن، وبعد أن استقرّ حكمها، عادت إلى نمط الحكم المعروف لها، وهو السيطرة على أساس قوانين دينيّة (الشريعة) واستخدام العنف السياسيّ لقمع المعارضين. هل سيعود الجولاني إلى جذوره الإسلاميّة الراديكاليّة ويؤثّر على النظام في هذا الاتجاه، مع محاولة إظهار صورة للمجتمع الغربيّ بأنّه يحترم حقوق الأقلّيات من أجل ضمان الشرعية الغربيّة من جهة، والشرعية الداخليّة من جهة أخرى؟ من المحتمل جدًّا أن يكون الأمر كذلك. على الرغم من أنّ النظام سيكون معتدلًا جدًّا مقارنة بنظام الأَسَد القاتل، فإنه بعيد عن أن يكون ديمقراطيًّا، كما يطمح العديد من الناس إلى تعليق آمال كاذبة بالطبع. فهو بالتأكيد لن يكون نظامًا ليبراليًا يهتم بحقوق الإنسان والمواطن. لكنه سيكون بالتأكيد نظامًا معقولًا نسبيًا، وليس راديكاليًّا متطرّفًا كما يحاول البعض تصويره من الناقدين من الجانب الآخر، قد يصبح “نظامًا مقبولًا” مقارنة بالأنظمة العربيّة المحيطة، دون أن يكون مثالًا يُحتذى به في الحكم الرشيد أو احترام حقوق الإنسان.

د. سليم بريك

محاضر وباحث في العلوم السياسية

رأيك يهمنا