إِثرَ سُقوط نِظام الأَسَد: إسرائيل تُصوّب نَحو غايَة إضعاف إيران وحِزب الله
طَرَحت آخر التطورات في سورية، بتأثير من الحرب الإسرائيلية على غزة التي بدأت يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وسرعان ما أمسَت حربًا متعددة الساحات- والمقصود التطورات التي تأدّى عنها سقوط نظام بشّار الأَسَد- تحديّات شتى على إسرائيل، واجَهَتها، بادئ ذي بدء، عبر خطوات عسكرية ميدانية عدّة، تَمثّل أبرزها في احتلال جبل الشيخ السوري ونقاط أُخرى على امتداد الحدود في المنطقة العازلة داخل الأراضي السورية بِحُجّة "الدفاع عن الجولان الإسرائيلي" (تجدر الإشارة هنا إلى أنه في 31 أيار/ مايو 1974، تم توقيع اتفاق بين إسرائيل وسورية بشأن وقف إطلاق النار، وفَصل القوات، وإطلاق سراح أسرى الحرب، والانسحاب من جميع الأراضي التي احتلتها إسرائيل خلال حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973- بمساحة عرضها نحو 20 كيلومترًا ومساحتها نحو 400 كيلومتر مربع. وفي مقابل هذا الانسحاب حَصَلت إسرائيل على تعهّد بإنشاء منطقة عازلة بمساحة تقارب 235 كيلومترًا مربعًا، تديرها قوات أجنبية تابعة للأمم المتحدة تُعرَف باسم "أوندوف"، تمّ نشرها على الجانب السوري مِن الخطّ). فضلًا عن ذلك، وَفَور سُقوط نظام الأسد، أعلنت إسرائيل أن سلاحها الجوّي سوف "يَمرّ على كلّ ما ينطوي على قدرة عسكرية تتجاوز المستوى التكتيكي ويدمره": طائرات ودبابات وسفن وقُدرات بحثيّة وتطوير وإنتاج. ووفقًا للبيانات الإسرائيلية المتواترة، فإن كلّ شيء "يتجاوز مستوى الكلاشينكوف والآربي جي" سيجري تدميره، ويشمل ذلك أيضًا محاولة ضرب مخازن السلاح الكيميائي والمتقدّم الذي تركه الجيش السوري وراءه.
وبحسب التقديرات السائدة في إسرائيل، تهدِف هذه العمليات العسكريّة الأخيرة إلى الحؤول دون استيلاء "جهات جهاديّة" على قدرات عسكريّة لا ينبغي السّماح لها بالسيطرة عليها.
وبمتابعة ما كُتب بهذا الخصوص إلى الآن يمكن ملاحظة أن هناك إجماعًا في أوساط المحللين العسكريين والأمنيين على أن هذا يعتبر بمثابة درس مهمّ في نظرية أمنية إسرائيلية آخذة بالتبلور تُقارب المطلوب ما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وعملية "طوفان الأقصى". كما أن أحَدَ الدروس المهمّة من هذه العمليّة الأخيرة هو أن المبدأ الناظم لـ "العقيدة الأمنية" التي يجب على إسرائيل انتهاجها الآن بسيط وفحواه ما يلي: عندما يقف في مواجهتها خصمٌ مسلِم ديني- أصولي، فإن أيديولوجيتها الأساسية هي تدميره.
كما يمكن ملاحظة أن ثمّة من خَلُص إلى استنتاج آخر لا يقلّ دلالة برهنت عليه الوقائع، مؤداه أن إسرائيل كانت راضية بالهدوء الذي ساد على طول منطقة الحدود مع الجولان طوال نصف قرن ونيّف منذ انتهاء حرب 1973، ولم يَبْهَظها بقاء نظام الأسد في سدّة الحُكم.
ما عدا ذلك ينبغي أن نشير إلى الأمور التالية:
أولًا، ثمّة تركيز إسرائيلي على أنه نظرًا إلى أن روسيا وإيران هما الخاسرتان المباشرتان من الوضع الناشئ المُستجدّ، فإن التطورات الجديدة في سورية تُعدّ نتيجة مُرحَّبًا بها من الولايات المتحدة التي تمنح من ناحيتها إسرائيل غطاءً لكلّ ما تُقدِم عليه بمسوّغ "حقّ الدفاع عن النّفس"، كما عبّر عن ذلك أكثر من مسؤول أميركي رفيع المستوى.
ثانيًا، ستظل تتوالى التحليلات التي تحاول استشراف الاتجاهات التي ستنحو إسرائيل نحوها في إِثر سقوط نظام الأَسَد، ومعظم ما تَراكم منها حتى الآن يَتَوقع نشوء "شرق أوسط جديد" ملامحه آخذة بالتشكّل. وعلى المدى المباشر، بَرَزَ على السّطح، أكثر من أيّ شيء آخر، تقييم ذاهب إلى أن التقديرات السائدة في أروقة المؤسّستين الأمنية والسياسية في إسرائيل ترى أنه في أعقاب إضعاف الجماعات التّابعة لإيران في الشرق الأوسط وسقوط نظام الأسد، هناك فرصة استثنائية لضرب المنشآت النووية الإيرانية. ولذلك، يُواصل سلاح الجو الإسرائيلي زيادةاستعداداته وجهوزيته لمثل هذه الضَرَبات المحتملة في إيران. وتقف أسباب عدّة وراء الدعوة إلى انتهاز مثل هذه الفرصة لعلّ أهمها الاعتقاد بأن إيران، التي باتت معزولة إلى حدّ كبير بعد سقوط نظام الأسد وإضعاف "حزب الله" في لبنان، قد تَمْضي قُدمًا في برنامجها النووي وإنتاج سلاح نووي يشكّل داعمًا بديلًا لقوتها الرادعة.
ثالثًا، تُجمع كلّ هذه التحليلات على أن إيران هي أكبر الخاسرين من سقوط نظام الأسد وإضعاف "حزب الله" في لبنان، فقد فَقَدت الآن محورًا أنشأته وتعزّز بالتدريج، يمتدّ من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط، مرورًا بالعراق وسورية (التي تعتمد عليها من أجل بقاء النظام)، ولبنان حيث يسيطر "حزب الله" الذي بَنَته وموّلته وسلّحته. وبِرأي هذه التحليلات تمّ تدمير هذا المِحور، وستواجه إيران صعوبة في تسليح الحزب الذي تمّ إضعافه في لبنان. كما أنها فَقَدت، عمليًا، قُدرتها على تكبيد إسرائيل الأذى عبر حدودها الشمالية، وهو ما يَتركها مكشوفة أمام مواجهة مباشرة مع إسرائيل من دون أي دعم من وكلاء قريبين من إسرائيل (إذ تمّ تدمير جزء آخر من قدرتها على إيذاء إسرائيل في غزة)، وتلاشى حُلمها بمحور شيعي يصِلها بالبحر المتوسط.
رابعًا، بموجب قراءات إسرائيلية متطابقة تنبئ المستجدّات في سورية بصعود نَجم تركيا في منطقة الشرق الأوسط. وبخصوص تركيا تتمحور التحليلات الإسرائيلية من حول الاستنتاجات التالية: 1- الرئيس رجب طيّب أردوغان إسلامي سنّي على النمط التركي، يحلم بإعادة مجد الإمبراطورية العثمانية؛ 2- على الرغم من أن تركيا تُعتبر جزءًا من حلف شمال الأطلسي (الناتو) الغربي رسميًا، فإن سياستها الخارجية غالبًا ما تتعارض مع سياسات الغرب، إذ إنها سَعت للانضمام إلى مجموعة "البريكس"، وهي عبارة عن تكتّل مناهض للغرب؛ 3- ساعد أردوغان إيران على تجاوز العقوبات الاقتصادية الغربيّة، وهو يدعم حركة حماس، التي صنّفها الغرب منظمة "إرهابية"؛ 4- سبق لجنرالات أتراك مقرّبين من أردوغان أن عبّروا عن رؤية تصف جيشًا إسلاميًا يهاجم إسرائيل.
إجمالًا، يمكن القول إن ما يسود لدى إسرائيل حاليًا أنها تبدو قويّة مَرّة أُخرى، وهذا أمر ينطوي على دلالات كثيرة وذات أبعاد مهمة، بالأساس على أعتاب دخول إدارة أميركية جديدة إلى البيت الأبيض تُشير التوقّعات إلى أنها ستكون أكثر وديّة ودعمًا.
الصورة: لكوبي غدعون - مكتب الاعلام الحكومي.
أنطوان شلحت
كاتب صحافي ومحلل سياسي فلسطيني.