"سورِية جَديدَة" وفَوضى شَرق أوسطيّة أشدّ وأحلام إسرائيليّة أخطَر
ما زالت تَداعيات سُقوط سوريا ونِظام بشّار الأَسَد تتفاعل نظرًا للأهمية الجيوسياسية لهذا البلد في الشّرق الأوسط، ودورِه الفاعل على مدى سنوات طويلة.
عند تقييم أيّ نظام سياسي يُؤخذ بعين الاعتبار الكثير مِن العوامل والمواقف، خاصّة ما يتعلّق بالسياسة الداخلية والسياسة الخارجية، وفي حالتنا الشّرق أوسطيّة هناك أمران:
الأول، الموقف مِن السياسات الأمريكية والاستعماريّة وذراعها في الشرق الأوسط، إسرائيل، واحتلالها الأرضَ العربية، وفي الحالة السورية، احتلال الجولان السوري.
وثانيًا، هو موقف هذا النظام مِن شعبه وتعامُله معه، والسياسات الاقتصادية الاجتماعية وتوزيع الثّروات داخل الوطن، وكذلك المَوقف مِن الدمقراطيّة وحقوق الإنسان والمواطن.
إنّ عمليّة التّوازن بين الأمرَين هي ضرورة في غايّة الأهمية، نظرًا لأن أيّة حالة يَجب أن تَخدم الحالة الأخرى، وأيّ تَصرّف يَجب أن يأخذ بالحسبان مدى تأثيره على المَوقف الآخر.
وعلى ما يبدو، أَخفَقَ النظام السوري في تعامُله مع الوضع الداخليّ إخفاقًا كبيرًا، ليس فقط في كلّ ما يتعلّق بالحرّيات السياسية والتنظيم الحزبي وحرّية الرأي، وإنما أيضًا في كلّ ما يتعلّق بوضع البلد الاقتصادي، والجُنوح نَحو الليبرالية الاقتصادية المُفرِطة، والتوحُّش الاجتماعي، وفَتْح الباب أمامَ الفساد الاقتصادي، الذي انعكَس في سيطرة فئات جَشِعة على محاور الاقتصاد، مما خلق حالة غُربة عميقة بين فئات الشعب والنظام، وكلّ ذلك في ظلّ حصار اقتصادي شديد القسوة على الاقتصاد السوري، فَرَضته أمريكا والغَرب في ما يسمى بقانون "قيصر".
لكن في النّظر إلى الحالة الأوسع، المتعلّقة بالإقليم ومَكانة سوريا، الوطن والدولة، يُسأل السُؤال: يَخدِمُ مَنْ سقوطُ النظام والدولة في سوريا؟
مَنْ المُستفيد مِن تَحييد سوريا وتفريغها من أيّ دورٍ لها في الشرق الأوسط، وفي كلّ قضايا الشعوب العربية؟
ينطبق هذا السؤال على التّجربة التاريخية لسُقوط النّظامين في العراق وليبيا.
حيث إننا ما زلنا نرى أنه جرى تقسيم النظام في العراق إلى مُحاصصة طائفية، إلى جانب انفصال كردستان العراق شبه التّام عن العراق.
أما ليبيا، فما زالت تعاني مِن حرب أهليّة دامية، وتدخّلات أجنبية تخدم أجندات ومصالح بعيدة كلّ البُعد عن المصلحة الحقيقية للشعب الليبي، إضافة إلى سرِقة خيرات هذا البلد مِن النفط والطاقة بشكل فظّ ووَقح.
تأخذ هذه الحالة أهمّية كبرى في الحالة السورية، عندما نُشخِّص القوى التي سيطرت على سوريا ومرجعيّاتها الفكرية والسياسية، ولعل خِطاب محمد جولاني في المسجد الأموي غداة سيطرته على دمشق يشير أكثر إلى إين وجهَة هذا الرجل، والأهم هو ليس ما جاء في الخطاب وإنّما ما غاب عنه، وخاصة في كلّ ما يتعلق بوحدة الوطن والدولة السورية والجولان السوري المحتلّ خاصة. وكذلك تغييب أيّ ذكر للاحتلال والرعاية العسكرية الأمريكية للمناطق التي تُسيطر عليها القوات الكردية.
وعاد الجولاني إلى توضيح موقفه أكثر في لقائه مع وفد وزارة الخارجية الأمريكية، الذي زار دمشق يوم الجمعة الموافق 20/12/2024، حيث نقل على لسانه القول، "إن القيادة السورية الجديدة تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف الإقليميين، وترفض أيّ استقطاب".
تزامن هذا التجاهل بشكلٍ فظّ مَع قيام إسرائيل بأكبر حملة عسكرية في تاريخها، وهو تدمير الجيش السوري تدميرًا شبه كامل، والقضاء على كافة قدرات الجيش السوري العسكرية وبنيته التحتيّة من معسكرات ومطارات وموانئ.
وإذا ما أخَذنا هذه الخطوة -القَضاء على الجيش السوري- إلى جانب القَضاء، في حينه، على الجيش العراقي، ومن ثمّ القَضاء على مقدّرات ليبيا وإغراقها في حروب أهلية، وتحييد الجيش المصري بحكم اتفاقيات كامب ديفيد مع إسرائيل، نرى أننا أَمام واقع جيو سياسي كبير وعميق، يقلب موازين القوى في المنطقة رأسًا على عقب.
نَحن الآن في شرقٍ أوسطَ خالٍ كليًّا من أيّ نظام عربي يقول: "لا"، ولو لفظيًا، لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية.
نَحنُ الآن أمام واقع سياسي لا يضعُ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية على سُلّم أولوياته.
نحن الآن أمامَ واقع عربي لا يضع القضية الفلسطينية في سلّم أولويّاته.
وإذا ما عدنا إلى خِطاب الجولاني في المسجد الأموي، نرى أنّه أتى على ذِكر اسم دولة واحدة فقط، وهي إيران ووجودها في سوريا، متغاضيًا عن الوجود العسكري الأمريكي، وعن الوجود التركي، وفي الأساس التّغاضي عن الاحتلال الإسرائيلي للجولان وتوسُّعه في الجنوب السوري في الأيام الأخيرة.
فهل هذا تغيير جوهري في سُلّم أولويات النظام الجديد في سوريا.
أم هل هذا الأمر إعلان نوايا إلى أين وجهة هذا النظام؟
هل نحن أمام تَغيير في تعريف جوهر الصراع في المنطقة، مِن صراع إسرائيلي- عربي إلى صراع عربي- عربي يستند إلى مبررات طائفيّة؟
لا شكّ أن المخاطر التي تتعرّض لها سوريا في الفترة القريبة هي مخاطر جديدة، وأكثرها خطَر التقسيم إلى دويلات طائفية، تخضع بالكامل لإرادات أجنبية، وبالأساس تركيّة وخليجية، تطيح بكل آمال الشعب السوري في الحرية والدمقراطية والحقوق المدنيّة، التي ترفعها العديد مِن قوى المعارَضة السورية، لكنّها لا تَجد لها مكانًا، حتى الآن، في المشهد السوري الآخذ في التكوُّن في الفترة الأخيرة.
لكن الأخطر ما هو قادم على مستوى المنطقة، مع دخول الإدارة الأمريكية الجديدة، إلى سدّة الحكم في واشنطن، وفي الأساس كل ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، التي هي الضحية الأولى لمخطط الشرق الأوسط الجديد، المتكون حاليًا في المنطقة، بعد سقوط آخر نِظام وَقَف حجر عثرة أمام المخططات الأمريكية.
حِرْصُ الحكومة الإسرائيلية على الأردن في هذه الفترة، هو ليس حرصًا جوهريًا. إن خلق فوضى عارمة في الشرق الأوسط، يرفَعُ لدى اليمين الإسرائيلي الاستيطاني، بالذات، وهو الحاكم اليوم، توقّعاته لتطبيق حلمه الدائم، بالتهجير الفلسطيني الكلّي إلى الأردن، وإقامة دولة فلسطينية هناك، وهذا تم التصريح به على ألسن العديد من السياسيين الإسرائيليين، الذين باتوا اليوم في أعلى دوائر القرار الإسرائيلي.
لكن كي نَضَع الأمور في نِصابها، فإن دولًا عالمية كبرى أساسية، وأيضًا إقليمية، ستَمنع هذا، رغم توقعات أحزاب اليمين الإسرائيلي المتطرف، بأن مخططهم هذا سيلقى أذنًا صاغية لدى إدارة دونالد ترامب الجديدة، على أن يتمّ هذا على مراحل، أوّلها ضمّ الغالبية الساحقة من الضفة الغربية المحتلّة، وتحويل المدن الفلسطينية إلى كانتونات مُغلقة محاصرة، يصبح العيش فيها، تدريجيًا، صعبًا، ما يشجع على "الهجرة الطوعية"، وِفق أحلام اليمين الاستيطاني الإسرائيلي.