سوريا 2024- العَزف على ظَهر السّفينة "تيتانيك"!
فَجر يوم الأحد، 8 كانون الأول/ ديسمبر، الساعة الثالثة والنصف، أبحثُ عن هاتفي مُسرِعة، أتصفّح بِضع صفحات وأرى رسائِل الرّفاق، "راحَت البلاد"، فأسأل "كيف تذهب؟"، لم أشاهد يومًا "رَحيل مُدن"، فأتذكر أنني أكتبُ اسمي بالتاء المربوطة، لا أتعرّف اسمي دون تلك التاء، كما لا أعرف شكلًا آخر للبلاد!
ماذا تعرفون عن سوريا؟ ربّما كان من المُمتع الاستماع إلى جواب هذا السؤال من الوفود العربية، خاصّة الفلسطينية، التي لا يتاح للسوريين مثلي اللقاء بهم إلا على هامش ورش عمل ومؤتمرات ذات طابع دولي، خاصّة عندما تكون "الدراما" هي الجواب، إلا أنه بعد تاريخ الثامن من كانون الأول/ ديسمبر سيتغيّر الجواب كليًا، فسوريا تغيرت كثيرًا وقرّرت إعادة الهويّة التي عُرفت بها على مدى أكثر من نصف قرن خلال 11 يومًا فقط، "11 يومًا" يصلح عنوانًا لمسلسل رمضاني أيضًا.
لا يمكن رؤية التغيير في سوريا اليوم بعيدًا عن دوامة العُنف الجديدة التي بدأت خلال العامين الماضيين في الشرق الأوسط، وما سبَقها من حركات وحروب أهليّة في المنطقة، والذي انعكس في سوريا على شَكل انهيار دراماتيكي يشبه الحلقات الأخيرة من المسلسلات الدرامية السورية المُتقَنة الصّنعة، وكأن سوريا قرّرت "إعادة ضَبط مَصنع" هويّتها وشَكل مؤسساتها وعلاقاتها وربما حدودها، فقدّمت بذلك نموذجًا حديثًا لانهيار الدول القومية التقليديّة، بعد فشل هذا النموذج في تلبية طموحات شعبه ومُحيطه الحيوي.
هربَ بشّار الأَسِد، وسَقَط النظام، لكن معاينة الواقع تقول إن الدولة السورية كلّها سقطت، فمع الساعات الأولى لصباح السقوط، وَجَد السوريون أنفسهم عُراة دون مؤسسة عسكرية تحميهم، ولا مؤسسات إدارية وتنفيذية تسيّر أمورهم، حيث مِن مشاكل النظام السابق أن السُلطة كانت هي الدولة، وليس العكس، وهكذا وَجَد تنظيم هيئة تحرير الشام جغرافيا البلاد مفتوحة أمامه.
يُحاول الجَميع مِنَ الخوف واليأس النظرَ بتفاؤل نحو المستقبل، فأتذكّر تلك الفرقة الموسيقية على ظَهر "تيتانيك"، أشعُر أنّهم يعرفون النتيجة ومَع ذلك هو الأمَل الأخير الذي حَكَمنا فيه الكاتب والمسرحي السوري الشهير سعد الله ونوس وَرَحل. لكن كلّ ذلك الأمل لا يمكنه أن يغيّر حقيقة أن الصور والفيديوهات وصُراخ الثوار الجدد فيها خطابات كراهية، وعنفٌ مهما حاولت وسائل الإعلام تنظيفها، "فالطّبع يغلِب التطبّع" حتى لو كانت أميركا وصيّة عليك، ولنا في إفغانستان عبرة يا "أولي الألباب".
في هذا النوع من الانهيارات، يتراجع الجميع باتجاه بيئاته الأصليّة الأولى خوفًا من الوقوع ضحيّة لانتشار شريعة الغاب مع غياب آليات ومؤسسات المحاسبة وضمان الأمن والسلامة، وفي هذا الإطار يَجِد قادة الرأي العاملون في الشأن العام والسّياسة أو ما يُعرف بالنخب السياسية والثقافية والاجتماعية أنفسهم مُجبرين على تجاوز أي اختلاف في الماضي، والعمل معًا لإنقاذ ما تبقّى من أرضيّة يمكن البناء عليها، وهي عملية ستأخذ وقتها، فهي للأسف عملية بناء من الصفر، وإذا كانت إعادة الإعمار بعد الحروب تعني المنازل والمناطق السكنيّة، سوريا اليوم أمام خيار واحد هو إعادة بناء الإنسان ومفهوم الدولة والمواطنة، ولمّ شَمل الشعب السوري على هويّة سورية جديدة جامعة تضمن السّلم الأهلي والقدرة على إعادة بناء المؤسسات، وضمان الحقوق والحريات للجميع.
كلّ ما سبق سيكون بالتوازي مع مواجَهَة "إسرائيل" التي تبدو حتى الآن المستفيد الأكبر مِن المشكلة "الوجودية" للدولة السورية، فلم تحتج إلا أيامًا قليلة لمسح أكثر من 80 في المائة من قدرات سورية العسكرية، والسيطرة على قمة جبل الشيخ بعد التوغّل في المنطقة منزوعة السلاح التي أنشئت بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وسيكون تحدّي إعادة إخراج إسرائيل من جبل الشيخ هو الاختبار الوطنيّ الأوّل للإجماع السوري الجديد.
في قراءة كَسولة للمشهد تشبه تلك القراءة بعد اندلاع ما سُمي بالربيع العربي، يمكن اعتبار أن الانهيار الشّامل لشكل النظام والدولة السورية هو انتصار طَرف سوريّ على آخر، لكن مع مراجعة نقدية أكثر عُمقًا للوقائع الجديدة، يمكن القول إنه انتصار طرفٍ دولي على آخر في الساحة السورية، وأن سوريا التي نعرفها انتهت مع نهاية 2024، و"الخوف" بالتأكيد واحدٌ من الموروثات الثقيلة التي سيحمِلها السوريون طويلًا معهم حتى إعادة ولادة دولتهم من جديد، وربما حتى ذلك الوقت سنُعيد تفقّد ملامحنا في كلّ لحظة على أمل عند عودة البلاد التي نعرفها أن تعرفنا. وربّما حينها سيكون من المُمتع الاستماع مجددًا من وفود عربية، خاصة الفلسطينية، وهُم يجيبون عن سؤال "ماذا تعرفون عن سوريا؟".