سوريا الحرّة السيّدة المُستقِرّة حاجة دوليّة، نَقيضُها رغبةٌ إسرائيليّة

سُقوط نِظام الاستبداد في دمشق، بعد نصف قرن من استنزاف الإنسان والمجتمع في سوريا، وأكثَرَ من عقد من القتل والتدمير، هو إحقاق لِحَق وإن تأخّر، وبَصيص أمَل، وإن بقي واهيًا، بإعادة ترتيب للبلاد على أساسِ مصالحِ أهلها. أن تقوم سوريا الجديدة على أساس القيم العالميّة وحقوق الإنسان، في إطار نظام سياسي تمثيلي صادق مُنطلَقه حقّ المواطن بالحرية والمساواة والعدالة ودولة القانون، ليس تَحصيل حاصل، لا في سوريا التي اجتهدَ النظام البائد في استغلالها وإخضاعها من خلال التفقير الماديّ والتصحير الفكريّ والتخويف الفئويّ، ولا في أيّ مجتمعِ آخر شَهد كُسور ما شهدته سوريا مِن تجاذب وتوظيف لأغراضٍ ومصالح تتجاوز حدودها.

كانت منهجية النظام البائد في مواجهة التحدّيات التي تعرّض لها مع اندلاع الثورة السورية عام ٢٠١١ واضحة. كانت الأولوية القصوى لوأد أيّ حراك محليّ ذي طابع مدني، حفاظًا على الإطار الاستبدادي التلقائي للنظام، وخشية أن ينسجِم هذا الحِراك مع المتابَعة العالمية التي استبشَرَت بـ «الربيع العربي» خيرًا. الأولوية التالية كانت استهداف المنشقّين من «الجيش الحرّ» وغيره من المنتسبين السابقين للنظام، بالقمع والاختراق والتشتيت، كي لا يتشكّل البديل «النظامي»، ومِن بعد هؤلاء الجماعات المسلّحة المنضوية تحت شعارات إسلامية بتمويل مِن دول خليجية مختلفة، ثم التنظميات السلفيّة الجهادية المتفرقة غير المرتبطة بشكل مباشر بدولة أو منظومة معيّنة، وأخيرًا الفصائل السلفيّة والجهادية والتكفيرية التي بايعت تنظيم القاعدة وفي مرحلة لاحقة تنظيم الدولة. كانت هذه المنهجية في واقع الحال متابعة بمزيد من الحديد والنار لتوجُّه التصحير الفكري الذي مارسه النظام على مدى تاريخه والقائم على تكميم الأصوات الحرّة وقَمع الطُروح السياسية المعقولة ونفي البدائل الممكنة لتعزيز أوجه التبعيّة الاجتماعية والاقتصادية والتأكيد للداخل والخارج على حدّ سواء أن النظام هو الخيار الأبقى وما عداه هو التطرف والإرهاب. وبعد سنوات طويلة في تطبيقٍ -وإن متعثّر- لهذه المنهجية، بمعاونةٍ لا بد أن يكون لها حساب مِن إيران وروسيا وحزب الله، قد لا يجوز أن يُحصر بجهود النظام أن تكون «هيئة تحرير الشام» هي محصّلة أوجه المعارضة السورية، ولكن بُروز الهيئة ليس بدوره وليد اندفاع عموم السوريين إلى هذا الفصيل دون غيره.

رغم الاستنزاف الممنهج والمتعمّد، ورغم التراجع في البنى والخسائر الفادحة التي لا يمكن تجاهلها، فإن المجتمع السوري، بمدنه وأريافه، ما زال قادرًا على إنتاج البديل القائم على الانسجام بين ثوابته المحلّية والقيم العالمية. هذا ما يفيده الاستقراء، دون مبالغة بالتفاؤل، دون إنكار صُعود توجُّهات معارضة لهذا الانسجام، ولكن دون تبخيس ينطلق من توصيفات جدلية تزعم الواقعية. لا يجوز تجاهل خلفية «هيئة تحرير الشام» الفكرية والعقائدية، على أن هذه الخلفية تتضمن كذلك الأبعاد المحلية لقادتها ومنتسبيها، أي أن لباس هؤلاء لا يقتصر على عباءة القاعدة، بل هو أيضًا من نسيج التجربة المشرقيّة الشامية السورية في مراحلها المتتالية.

ليس هذا وعدًا بالنجاح، لكنّه رفض لتوقع الفشل الحتمي. مدى قدرة «الهيئة» على الإقرار بأن مساحة المعارضة لا تقتصر عليها أو على توجهات عقائدية متوائمة قد يكون مرتبطًا بالوعي لدى أفراد قادتها، كما هو اختبار فعليّ للزخم في المجتمع السوري، بكافة شرائحه ومكوناته وشخصياته لإبراز ما أمكن استنقاذه من المسعى التدميري للنظام البائد.

يريد العالم لسوريا الخير، وللسوريين الحرية والكرامة. هذا هو الموقف الأخلاقي الإنساني البديهي، لكنّه كذلك المصلحة الدولية. سوريا الحرّة السيّدة المستقرّة هي نواة لمشرق يرتقي إلى موقعه الطبيعي في عالم عربي طال غيابه الفعلي عنه، وفي إطار متوسّطي اختبر أثمان إهماله من هجرة غير منضبطة وحركات جهادية عالمية.

ثم أن عودة سوريا إلى ذاتها هي أيضًا عودة للواقع الاجتماعي الثقافي المشرقيّ الذي انبنى وتأصّل على مدى آلاف الأعوام، والمستنبط بذاته أسس التسامح الفعلي والإقرار بالاختلاف، ما يتيح المجال لتجسيد تَصوّر التلاحم والشراكة في إطار الوطن الجامع. وإن لم تصل دول المشرق إلى كامل تحقيق هذه الصيغة، فإن منحاها الواضح في اتجاهها اعترضته المصالح الضيّقة للبعض في الداخل والخارج، والتحدي المستجد أمام سوريا الجديدة هو في كيفية معالجة مخلفات الاستبداد التي أنهكت بناها مع الاستفادة من دروس الآخرين، سلبًا وإيجابًا، في لبنان والعراق وغيرهما.

على أن هذه المهمة الشاقة تواجه صعوبات إضافية. ما يعني إسرائيل، قبل أي اعتبار آخر، هو الاستيلاء على الأراضي. هي بالأمس قد زرعت مستوطناتها في الجولان السوري، بعد ترحيل معظم أهله، ثم زعمت سيادتها عليه، ليأتي رئيس وقح للدولة العظمى ويبارك لها سطوها وسطوتها. وهي اليوم قد نهبت أراضي جديدة بما فيها جبل حرمون، في استيهام متجدد لأصول تزعمها وهي عنها منقَطِعة. والكلام عن الضرورات الأمنية والطبيعة المؤقتة للاحتلال الجديد مبتذل وكاذب. على أنه، في ما يتجاوز المبدأ الصهيوني الفذّ «دونم هنا، عنزة هناك»، والذي يجعل مِن السرقة عقيدة، فإنه لإسرائيل مصلحة أخرى في سوريا تتحدث عنها دون تورية، وهي أنه من الأصحّ لها أن تتعامل مع «الأقليات» وليس مع سوريا موحَّدة.

وإذا كانت إسرائيل قد حققت قدرًا من النجاح في اقتطاع بعض الفلسطينيين الدروز ليصبحوا «أقلية» وفق هواها، فإن فشلها في صفوف السوريين الدروز كان جليًا، وتضاعف في وضوحه يومَ سُقوط نظام دمشق إذ رفع صبية مجدل شمس وشبابها وكهولها وشيوخها أعلام سوريا الجديدة، وطنَهم رغم أنف المحتل. 

تجتهد إسرائيل في زَعم أن الانتهاء مِن نظام الاستبداد في دمشق يندرج في سياق إعادة رسمها خارطةَ الشرق الأوسط الجديد، لكنّه زَعم كاذب. نعم هي استفادت، من خلال الاستيلاء على الأراضي، لكنّها نتيجة آنية قابلة للتبدل. يقتضي تثبيت هذه النتيجة، والمصلحة الإسرائيلية عمومًا، انحدار سوريا الجديدة إلى الفوضى التي تبرر لإسرائيل «دعم» الأقليات، أي العمل على تفتيت المشرق، عساه يشبهها ويقرّ بها سيّدة عليه. 

المعطيات ليست حاسمة في ما إذا كانت الحاجة الدولية، والموقف الإنساني السليم، هما المؤهلان لأن يرجحا في قيام سوريا الجديدة التعدّدية الحرّة السيّدة المستقلة، أم ما إذا كانت الرغبة الإسرائيلية، ومعها طبعًا وتبعًا رغبة الكثير من صقور واشنطن، في الدفع لإفشال مسعى الدولة المركزية في سوريا، هو الأقرب إلى التحقق.

المسألة إلى حدّ كبير بيد السوريين. إن ارتقوا لمصلحتهم، نالوا الهناء وحصل المشرق والعالم على فسحة أمل. وإن عجزوا، فالمآسي إلى استمرار. إلى أن يتحقق الحقّ، وإن بَعد حين.

د. حسن منيمة

المحاضر في معهد الشرق الأوسط بواشنطن

رأيك يهمنا