عَن تَحوّلات الجولاني ومَوسِم الحَجيج إلى دِمَشق
فَجأة، تُصبح دمشق قِبْلة الزائرين، وقد فاقت أعداد المسؤولين السياسيين والأمنيين الذي وطِئوا أرضها في أسبوعين، عدَدَهم في أكثر من سَنة... منهم، من لم تطأ أقدامُه أرض العاصمة السورية منذ أزيَدَ من 13 عامًا... زيارات استكشافية في غالبيّتها، بعضها لتكريس مصالحَ وأدوار جديدة أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه مِن مصالح قديمة، بعضها لاستطلاع فُرص السياسة والمال والأعمال، وبعضها "الثالث"، لدرء الأضرار واحتواء المَخاطر، ما ظَهَر منها وما بَطَن.
لم تَعُد المُفاضَلة، بين قديم وجديد، سيّئ وأَسوأ، ترفًا تتمتّع به الأطراف من دون استثناء... هذا هو واقع سوريا الجديد، وعلى الجميع التّعامل معه، واستكشاف ما يَستبطِن من فُرص ومَخاطر وتحدّيات، وَسَط منسوب مُرتفع مِن الفُضول، للتعرّف إلى وجهة النظام الجديد وتوجّهه، الخارج مِن رحم السلفيّة الجهادية، والمُنسلّ من القوائم السوداء للجماعات الإرهابية، وُصولًا إلى سدّة "قصر الشّعب" المُطلّ على عاصمةِ دولة محوريّة بوزن سوريا وموقعها ومكانتها.
أطرافٌ وَجَدت في التغيير في سوريا فُرصة لتعزيز دورها وحضورها الإقليميين: تركيا تتصدّر قائمة "الرّابحين" من سقوط نظام الأسد، تليها قطَر في الترتيب، وهي التي انفرَدَت عن بقيّة دول الخليج، بالاستنكاف عن التقرّب مِن دمشق حتى الليلة الأخيرة لبشار الأَسَد في سوريا... اعتمدت مُعظم الدول العربية ومعها عواصم أوروبيّة شتى، ومن خلفها واشنطن بالطبع، "الشَّرطِيّة – Conditionality" في علاقاتها مع الحُكم الجديد، وفي هذا السياق، لا أهمّ من ضمان خُروج إيران من سوريا مرّة وإلى الأبد، ولا أولويّة تَعلو على أولويّة تصفية أذرعتها وحلفائها، وضمان تجفيف شرايين الحَياة لحزب الله، والتي تمرّ أساسًا بسوريا.
حكاية "الأقليّات والحكم الجامع والشامل"، كلام حقّ، لا يُراد به حقٌ بالضرورة. معظم الحكومات العربية التي تطالب بذلك، ليست جامعةً ولا شاملةَ، وبعضها، له سجلّ أسود في التعامل مع "أقلّيات" بلاده، وكثير منها، جَعَل الحُكم في عائلة أو أسرة، وحوّل السَواد الأعظم من شعبه وأبناء بلده وبناتها، إلى رعايا لا مواطنين.
الخشية من "الطابع الإسلامي" للحُكم الجديد، هو ما يحرّك بعض العواصم العربية، بل ويُخرج إعلام بعضها عن "طوره" و"رزنامته" في تغطيَة الحدث السوري.... ناصبت هذه العواصم الإسلام السياسي أشدّ العداء سنواتٍ وعقود، شيعيًا كان أم سنيًا، سلفيًا أم إخوانيًا، ومن نَكَد الدنيا عليها، أن تَرى خَلاصَها من الأسد ونظامه، ومن سوريا بوصفها "واسطة العقد" بين أطراف "المحور"، قد تمّ على يد جماعات مسلّحة، إسلامية و"جهادية" في غالبيتها العظمى.
لا أَحد يريد لسوريا أن تكون موطنًا أو موئلًا أو سببًا في انبعاث موجات جَديدة من الإرهاب واللاجئين، ولا أحدَ يريد لها دَور "المُحفّز – Catalyst" للإسلام السياسي من جديد.... بات ملفّ اللجوء ضاغطًا حتى على أولئك الذي استثمروا فيه للضغط على الأَسَد وحلفائه... والإرهاب يقترب من فقدان وظيفته في الإقليم، بعد أن سَقَط الأسد وأُخرجت إيران من سوريا، وأُضعف حزب الله في لبنان... يستهدف الحَجيج العربي ـــــ الدولي صوب دمشق، من ضمن ما يَستهدف، قطع الطريق على سيناريو "الانهيار والفوضى"، المرشّح بقوة لإطلاق مفاعيل "مبدأ الدومينو" في الإقليم وجِواره.
مع من يتحدّث هؤلاء؟
تَذهب الوفود إلى دمشق، وفي حسبانها استرجاع لـ"سيناريو طالبان" ومسار الدوحة الذي أفضى إلى عَودتها لحكم أفغانستان، بعد سنوات من التكيّف وإعادة التأهيل، تمّت بمساعدة عربية وإقليمية... بيد أنّ المُفارقة، أنّ هذه الوفود تَعود من دمشق، وفي أذهانها "سيناريو الإسلام السياسي التركي"، فالرّجل الذي صار يستقبلهم ببدلة غربية وربطَة عنق، ليس الرجل الذي طالما تدثّر بالزيّ الجهادي وأطلق العنان للحيته، وحديثُه عن مستقبل سوريا، لا يشبه خِطاب الكهوف في تورا بورا وقندهار... إنه أقرب إلى طَبعة مدنيّة من الإسلام السياسي، ولا أقول ديمقراطية، فلا أحَدَ يطالبه بذلك، لا من الشرق ولا من الغرب.
أبو محمد الجولاني، الذي سيصبح منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر، السيد أحمد الشّرع، وعلى الرغم من صغر سنه "42 سنة"، فقد مرّ بسلسلة من التحوّلات والتبدّلات الجوهرية... الثابت الوحيد في سيرته الذاتية هو التغيّر... لا خطوطَ حمراء ولا مقدّسات يمكن أن تمنعه عن مواصلة مشواره.... تديّن مُراهقًا، في حيّ المزّة الدمشقيّ، ليس من جيل "المُجاهدين الأفغان"، ولا من "العائدين العَرب" المدجّجين بالعقائد الجهاديّة، المَعطوفة على بنيَة قبلية ـــــ جبلية، عنوانها الكَهف والكُتّاب... هو من جيل مُجاهدي ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق وسُقوط بغداد... ابن دمشق، الذي عادَ إليها مع أبيه، "القومي ـــــ الناصري" في عمر السابعة، من الرّياض حيث كان يكتب ويؤلّف ويعمل.
انخرط في "الجهاد" في العراق في سن العشرين، تحت إمرة [أبي مصعب] الزرقاوي حتى رحيله، بايع [أبا بكر] البغدادي وانقلب عليه، استقوى بـ [أيمن] الظواهري على "داعش"، قبل أن ينقلب عليه هو الآخر، ويقاتل "القاعدة"، أو من تمرّدوا عليه من قياداتها (العرب خاصة)... كُلّف بتشكيل "جبهة النصرة"، الفرع السوري لـ "القاعدة"، رَفَض محاولات البغدادي دَمجها وضمّها إلى صفوفها، حَرِص على "سوريّتها"، وغلّب العنصر السوري فيها وعليها... لم يتوقّف عند اسم معيّن، لا "القاعدة" ولا "النصرة" ولا "فتح الشام" وجبهتها، بل ولا "هيئة تحرير الشام"... التغيّر هو الثابِت، طالما ظلّ الجولاني/الشّرع، في القلب مِن الحركة وفي مَركزها.
يقودنا مسار تغيّرات "الجولاني" السريع، لفهم تحوّلاته الأسرع كما تجلّت في أوّل أسبوعين له في الحُكم .... الأرجح أنها ليست نهاية مَطاف، وربما نرى المزيد من المفاجآت.... ومن غير المستبعد ألا تكون "نهائية" وذات اتجاهين وليس باتجاه واحد، النُكوص إلى الوراء ممكن، إن اقتضت الضرورة والحاجة، ضرورة الشّرع وحاجة بقائه في القمة، كلّ شيء جائز.... لكنّ "الأَخبار السارّة" في هذا المجال، أنّ تحوّلات الشّرع، قد تُفضي إلى بناء وضعيّة، يَصعب عليه معها، النُكوص إلى الوراء، وسيعتمد الكثير على أدوار اللاعبين الآخرين، فإمّا دَفعُه للمضي قدمًا في هذا المسار المدنيّ، وإما تركه نهبًا لما نشأَ عليه في العراق وإدلب، ولبنان حينما أُرسِل إليه، لتقديم المدد والإسناد لجُند الشام.
مواقف الجولاني/الشّرع، ليست وَليدة لحظتها، ولا هي ابنة ما بعد "الثامن من ديسمبر"، خَضَع الرجل لعملية إعادة تأهيل، أشرَفَت عليها عواصم عربية وإقليمية... والرجل الذي يُجمع عارفوه على ذكائه ومهاراته القيادية، يُظهر أنه "تلميذ" نجيب، وأنه تجاوز شيوخ طالبان في امتحان الجَدارة، كيف لا والعقائد تتأثّر ببيئاتها الاجتماعية، والبيئة "الشامية" تُنتج بلا شكّ، إسلامًا سياسيًا من قِماشتها، لا يشبه بالضرورة، طبَعاته الأفغانية والباكستانية.
خَرَج كلّ من التقاه من دبلوماسيين ومسؤولين مِن عنده بقدْر من الارتياح، الممزوج بالحَذَر وعدم التصديق... الأعينُ الآن متسمرّة على أفعاله لا أقواله... والعِبرة في كيفية تعامُله مع الضغوط المتناقضة التي يتعرّض لها، لا من قِبل الموفدين الذين يمثّلون مصالح مختلفة فحسب، بل ومن قِبل رأي عامّ سوري مشتّت، واحتياجات اقتصادية واجتماعية ضاغطة، وحالة أمنية منفلتة، وعدوان إسرائيلي متربّص، ومؤامرات تفتيتيّة تطلّ برأسها البشع من "تل أبيب" بخاصة.
كيف سيتعامل الرجل مع كلّ هذه التحديات، وبمن سيستعين، وعلى من سيعتِمد من حلفاء الداخل والخارج؟ تِلْكُم هي المُعضلة.
استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].