في البداية، كنت أفضّل أن أكتب هذا المقال كذكرى، وليس كواقع قائم حتى الآن. للأسف، كل يوم يزداد خذلاننا وفقدنا أشخاصًا كثيرين كانوا معنا ونُسجت قصصهم في مخيلتنا. في الحقيقة، كنت أرى الحزن بعينٍ غير دقيقة. كنت أراه عندما لا أجد ما أريده، أو عندما لا أحقق حُلمًا ما، لكنني اليوم اكتشفت أنني كنت عمياء، لا أرى ما هو الحزن الحقيقي!

ربما تفوز النشرات الصحّية بمعرفة أعداد الضحايا وتُحدِّث الأرقام كل يوم، لكن النشرات كلّها فشلت في نقل الوجع الذي بداخلهم، أو كل دمعة تسقط من أعينهم، أو رجفة بَرد عصفت بهم تحت الخيام. يَسقُط الرقم بجانب أحلامهم ونجاحهم وإنجازاتهم. يسقط الرقم بجانب طفل بُترت قدمه دون أي مخدر طبي، أو طفلٍ فقد حياته وهو يبكي، وأيضًا دون مخدر طبي.

أنا اليوم رأيت الحزن الحقيقي في قلب كل من يعيش في غزة. في زوايا كل بيت دُمر وفُقد صاحبه، في قلب كل أم فقدت أولادها، في قلب كل رجل فقد "روح الروح".

أذكر في بداية الحرب القاسية علينا جميعًا كفلسطينيين، كيف كانت الشوارع هنا، ليس بعيدًا عن غزة، فارغة من خطوات الناس عليها، وكم كان الأسفلت وحيدًا، وقد اختفت رائحة الخبز التي اعتدنا عليها في كل صباح، وأغلقت أعمال تجارية كثيرة أبوابها بسبب خوف الناس من المستقبل القادم وما يخبئه لهم.

أنا هنا في المكان الذي أعمل فيه، أرى الكثير من الطبقات المخملية والعادية أيضًا، وأسمع الكثير من أحاديثهم. أعيش في محيط قريب منهم وإليهم. لا يمكنني الخوض كثيرًا في ما يقولون، لكن محور الحديث يتعلق بالحرب القائمة منذ السابع من أكتوبر، التي أثرت سلبًا على الوضع الاقتصادي وسوق العمل. أصبحت شركات ناشئة كثيرة خارج إطار العمل، كشركات البرمجة والتصميم.

لا أستطيع نسيان وجه أحدهم، وقد عَلت ملامحه تساؤلات كثيرة حول وضعه المادي، حيث تكبد خسائر كبيرة بسبب الوضع الراهن. يطلب الإسبريسو وهو منشغل ومشتت ذهنيًا، وأيضًا محبط. بالمناسبة، أنا أعمل "باريستا" في مقهى، ولأنني أتعامل يوميًا مع مختلف الطبقات الاجتماعية، أستطيع القول إننا نعيش أزمة نفسية صعبة منذ أشهر طويلة. إذ أقرأ الخوف في عيون الناس، وأستشعر مشاعرهم القلقة في دواخلهم.

يطلبون الإسبريسو وهم منشغلون بنشرة الأخبار اليومية، خاصة ما يحدث منذ السابع من أكتوبر وحتى الآن. أصبحت "أخبار غزة"، محور كل المظاهرات والتحليلات السياسية والاقتصادية. يحزنني القول إنني لم أعد أرى الكثير من رجال الأعمال الذين كانوا يأتون لاحتساء القهوة. وأعلنت مجموعة من الأشخاص الذين أعرفهم مسبقًا إفلاسها بسبب الحرب، فالوضع الاقتصادي للبلد في ركود تام.

في كل لحظة تمرّ، يعتصر الألم قلبي كثيرًا لأنني لا أستطيع نسيان مواقف عديدة ما زالت تسكنُ مخيلتي وتنخر فيها. لا أستطيع أن أنسى شعر يوسف الكيرلي، ولن أنسى نظرات الرعب التي اخترقت عيون الأطفال الذين وُجدوا تحت ركام منزلهم أو تحت خيامهم التي لجأوا إليها. لا أستطيع أن أنسى الكثير من القصص التي تخيّلت وكأنني مع أبطالها في الميدان نفسه، وفي المكان نفسه أقاتل شعور الخوف والألم بيني وبين نفسي. لا أستطيع أن أنسى أنهم نزحوا ألف مرة وهم يسألون أنفسهم: هل نحن بلا قيمة إلى هذا الحد؟ كيف خَذَلَنا الجميع؟ أصبحت مخيلتي صندوقَ وجعهم.

في ظل العدوان الذي يحصل الآن، كنت أتمنى لو أننا نعيش في حقبة صلاح الدين أو ظاهر العمر لتحررت غزة وفلسطين ككل.

ها نحن هنا.. مرّ الوقت سريعًا علينا. اليوم نحن في أيلول، الشهر الذي يسبق ذكرى حرب أكتوبر من السنة الماضية. لا أستطيع أن أصدق أن هذا الوقت قد مرّ ونحن نتوجع ألمًا وفقدانًا على كل ما مضى من حياتنا، وعلى الوقت الذي ضاع ونحن ننتظر الهدنة.. هدنة لوقف دم أصبحت رائحته في كل مكان. مرّت سنة تعلمنا فيها ونبّهتنا إلى النِعم التي اعتدنا عليها ولم نكن نشعر بوجودها.

أنا اليوم، بعد سنة إلا شهرًا، أفقد الكثير من الأمل، خاصة في الحصول على وظيفة أبحث عنها منذ فترة. في ظل هذه الأوضاع التي نعيشها، من الصعب جدًا أن أجدها الآن. ولن أكذب، لقد فكرت مليًا في الهجرة لكي أجد فرصة مناسبة لي، فنحن كبشر قلقون دائمًا إزاء البحث عن الأمان.

أنا هنا أبحث عن ضوء، لكن ليس ضوءَ شمسٍ محتلة. يمكنني القول إننا في نهاية هذه الحرب نحتاج جميعًا إلى رعاية نفسية لكي ننسى ما حدث.

المعاناة تستمر.. ومستمرة.. والنهاية قريبة.

أسيل الزغير

خريجة برمجة حاسوب وناشطة مجتمعية، مقيمة في رام الله.

شهد
مقال معبر ع كل وجع جواتنا بنعيش فيه ب فلسطين... استمر رااائع
الأربعاء 2 تشرين الأول 2024
مهنا النجار
لقد كان الوصف من داخل الحدث، يصف صندوق المعاناة الذي وضعنا بين جنباته.. إستمري فبإمكانك أن تجعلي من هذا المقال رواية إسمها ( صرخة تشرين )
الخميس 3 تشرين الأول 2024
الالماني
جميعنا نبحث عن ضوء ينير بصيرتنا وأملنا بالحياة. لا تدري ، قد يكون شخص مروره بحد ذاته رسالة وهدف، قد يكون موقف تتغير عليه منحنى أفكارنا ونتجرأ لخطوات غير مألوفة ستساعدنا بكسر حاجز النفس داخلنا. وتأكدي تماما اننا جميعا ننتظر اشراقة لحياة افضل. -محتسي اسبريسو لكن لست مخمليا.
الخميس 3 تشرين الأول 2024
رأيك يهمنا