عامٌ مضى على حربِ الإبادة الجماعية على غزة.. عنوانُ بيتي تَغيّر، الشارعُ المطرّز بالشّجر وصيحات الأطفال الصغار قد تغيّر، تلك الطرقات الحميمة التي تتنفّس حصارًا وكمدًا على مدار سنوات طويلة تغيّرت، رائحةُ المدينة تغيّرت فقد احترقت القلوب والأشجار معًا، وباتت البيوت تتكئ على بعضها البعض غبارًا، عظامٌ تبخّرت وأخرى سُحقت لتغدو غبارًا مع غبارِ البيوت المدمّرة، عامٌ لم تُفلح فيه الإنسانية بأن تَضمن أن يُدفن عشرات آلاف الشهداء نساءً وأطفالًا ورجالًا وشبابًا، عامٌ لم يكن شفيعًا كي تهبط الرحمة في قلوب العالم ليَدَعَنا نحظى بساعات طويلة للبكاء، ساعات للحزن العميق لِكي يُعلن عن نفسه، عام لم يكن شفيعًا كي يصمت القلق ولو لثوانٍ على أحبّتنا ومدينتنا التي غَرِقت في بحر من الدم والوجع والمعاناة.

رقمُ هاتفي المحمول قد تغيّر، وأَصبَح رقمًا لا يُشبهني، لم أحفَظه حتى رَغم مرور عام، أُجافيه كأنّه عدوٌ يُصارعني كلّما أَلتقطته لأتّصل بأحد الأصدقاء أو الأقارب في غزة، لَم أعُد أسمع صوت العصافير فجرًا أو قريب المَغرِب حيث تَلوذ بِشجرة الجيران المطلّة على بيتي، أو تستيقظ معلِنة أن هنالك جمالًا في قُدوم يوم جديد، أو ساعات المَغرِب حيث تلوذ بالأمن والسَكينة. لم أعُد أسمعُ ضحكات محمد ابن الجيران وهو يلعب الكُرة أمام المنزل، ثم بشقاوته المَعهودة يدقّ بابَ البيت ليحصل على الكرة التي سَقَطت داخل جدران البيت، أُمازِحه حينًا وأُلقيها من فوق الحائط، وفي أحيان أفتَح الباب كَي أَرى ابتسامته الخَجولة وهو يأخذ الكُرة ويَهرع لبيته الملاصق لبيتنا. لا أعرفُ أين نزحَ محمد الصغير وجارتنا وزوجها اللطفاء، لا أعرفُ أين نَزح جيراني من الناحية الأخرى والذين في مقابلي، لا أعرف أين نزح الحيّ الذي أَسكُنه، ولا أعرف من لا يزال على قيد الحياة؟! ومن غادرها قهرًا أو قتلًا أو كمدًا؟ عامٌ بأكمله تغيّرت مصائرنا، لا نعرف شيئًا عن مَصير بيوتنا ولا أحبّتنا، تلك الأمكنة البسيطة التي نُحبّها تُعاني وحدها قصفًا وقذائف قرابة العام صمّت أذنيها وباتت على حافةِ الموت الدائم، كأنه قتلٌ لا ينتهي، وكأن أعمارهم باتت تُحسب بالمئات، تواصلٌ مؤلم يزيدك كمدًا وقهرًا، فما حال المدينة التي أصبحت مدينة أشباح تخلو من ساكنيها رغمًا عنهم، يشتاقون للعودة حتى لو إلى حطام بيوتهم...!!

بيتي الذي عَمِلت بِجُهد وتَعب دون كلل وبمشاركة زوجي مدّةَ عشرين عامًا كي نَبنيه، وقد وضعنا قِطعةً من أرواحنا فيه، والكثير من الأحلام الجَميلة، وشبابَنا، وَضعنا فيه حبًا ودفئًا وشَهِد جَمْعات عائلية مبهجة كان آخرها احتفال بهيج بنجاح أبنائي في التوجيهي؛ كان الاحتفال متجددًا بالأهل والأصحاب والجيران والصديقات، كان كأنه الفرح الذي يسبق عامًا مِن الحزن والوجع والبعاد والفقدان، كأنّما تُكافِئنا الحياة بفرح كبير. في أحيانٍ نَصنع الفَرَح في غزة مِن اللاشيء، وكثيرًا ما قُلناها حينِ نَفرح ونَضحك كثيرًا: "الله يستر من اللي جاي" كأنما ثيمة الموتِ عالقة في حناجرنا لا تَرحمُنا حتى في لَحظات فَرَحنا ..!!

عامٌ مِن القَلَق...!

ما حالُكِ الآن يا رفح؟ غَدوت وحيدةً دون أَهلِك بِمعبر مُغلق منذ أكثر من مئة يوم، حتى النازحين اشتاقوا لكِ بعد أشهر طويلة كنت فيها ملاذًا للجميع. ما هو حالك يا غزة وقد أصبحت بعد عامِ واحد مدينةَ أيتام؟!! وما حالُك يا خان يونس وقد غدوت ترابًا ممزوجًا بدماء الأحبة المَسفوك؟! ما حالك اليوم يا دير البلح وأنتِ تكافحين لأجل الناجين فيك؟؟ وما حالك اليوم يا بيت حانون ويا جباليا ويا بيت لاهيا؟ كأنما صَلبوا المسيح في غزة، فقد قَطعوا رَأسها في شمالها عَن جسدها، لا رأس ظِلّ لمدينة ولا لمخيم، ولا حياة في اللاحياة التي توقّفت، لا يزال الموت يُرفرف لم يَشبع بَعْد من دمنا. ما حالكم يا البريج والمغازي والنصيرات والزوايدة، ماذا فَعلت الحرب بكم؟! أين ذابت شوارعكم ومعالم المدينة؟ كيف سيَمرّ الصغار إلى مدارسهم المدمرة وكيف سيذهب الطبيب لمشفى مُدمّر وخارج على الخدمة؟ وأين ستذهب الصبية الخجولة بفستانها المطرز إلى جامعة كانت حلمًا جميلًا لكل صبايا وشباب غزة وقد دَمّرت أغلب الجامعات؟ بات كلّ ما نُحبه ركامًا، فأين هي منتزهاتك يا غزة؟ وشارع البحر الممتد على المسافةِ بَينَ عينيكِ يزيد جَمالكِ بزحمة الأهالي ليقتربوا من بَحرِك الحنون فلا يجدون ما يقودهم إليك وإليهم بعد أن باتت غربان الاحتلال ودبابتها حاجزًا قائمًا بفعل القوة الغاشمة، بينما تحلّلت عِظام شُبان ورجال ونساء حاولوا التحايل على قوة غاشمة كي تعود لهم أرواحهم في محاولة مستميتة للعودة لبيوتهم التي أجبروا على النزوح منها!!

مرّ عامٌ من القلق حيث غَرَقنا، لا نَعرف ما الذي يجب أن ننتظره، لا نعرف متى تتوقف الحرب، لا نعرف متى يمكن أن نشعر أنّ مِن حقّنا أن نَبكي ونَهطل كالمطر، لا مَطَرَ النازحين الذي يزيد ألمهم ومعاناتهم، ويجعل خيَمهم القماشية كأنها ورقةٌ في مهبّ الريح، لكنه مطرُ الغيث الذي نتمناه أن يُحقق أمنياتنا بأن من حقّنا أن نتنفس ولو قليلًا ...!

مضى عامٌ ولم يعد الأحبة في أماكنهم، فمنهم من رَحل للسماء، ومنهم من يواجه ريحًا عاتية في خيمته المتهالكة، ومنهم من أصبح عجوزًا بينما كان شابًا قبلَ عام واحد، ومنهم من أصبح رجلًا بينما لا يزال طفلًا صغيرًا، لم يُعد أحدٌ آمنًا في بيته، ولا أحد يتذكر أيام السعادة والراحة حين كان بين أربعة جدران تَحميه وتُستُره وحالَه البسيطة عن عيون الآخرين...!!

كثيرةٌ هي سُبل الموت التي تنال من الغزيّ كثيرة لدرجة لم نَعُد نُحصي عَدد موتانا وقَتلانا، لقد ذَبَحَتنا الأرقام المُفزعة وباتَت سيفًا آخرَ على رقابنا، عامٌ واحدٌ دُمرت فيه أحلامُ أحبّتنا وانقطعت بِنا السُبُل معهم، كيف يُمكن أن نَعود كما كُنّا...؟!

 لن نَعود أبدًا ما دام هنالك احتلال يَكبح أنفاسَنا ويَقتل أحلامَنا في مَهدها، لم يَعُد هنالك بصيصٌ من أمل يأخذنا ولو كذبًا إلى يوم نتنفّس فيه ولا نفعل شيئًا سوى الصراخ والبكاء، فهذه الأشلاء وهذه الأرواح هي منّا وفينا مِن لَحمنا ودَمنا، عام واحد كان كفيلًا أن نَعْلَق في موتٍ أبديّ لا خلاص منه ولا شفاءَ يُمكننا أن ننشُده بينما الحرب لا تزال مستمرة والإبادة لم تَقتصر على أرواح البشر، بل اقتنصت من أرواحَ الأشجار وأرواحَ الشوارع، لقد انطفأت مَدينةُ الحبّ والحرب وغادرَ بحرُها حزينًا إلى أعماق الألم يبكي وحيدًا كلّ ما يَراه ويسمعه، لم يَعُد يتحمل وجعًا آخر لكلّ مَن مرّوا بشاطئه بين فصولٍ أربعة يبدو أنها ستعود لتتكرر مِن جديد دون أمل بالنجاة..!

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

رأيك يهمنا