عام على حرب الإبادة الإسرائيلية ضد فلسطينيي غزة: استخلاصات أولية

منذ عام وإسرائيل تشن حربَ إبادةٍ جماعية على الفلسطينيين، بخاصة في غزة، باتت تُعرَف كأطول حروبها منذ إقامتها (1948)، وأكثرها قسوة ووحشية وكلفة من النواحي البشرية والمادية والسياسية، بالنسبة لطرفيها المباشرين، مع الفارق الهائل لصالح إسرائيل طبعًا.

ثمة ميزات عدّة لهذه الحرب، أولها، أنها بدأت بمبادرة من "حماس"، تمثلت بهجوم "طوفان الأقصى" (7/10/2023)، إلا إن ذلك لا يغطي، أو لا يحجب، حقيقة أن إسرائيل، وسياساتها الاحتلالية والعدوانية والعنصرية إزاء الفلسطينيين، هي السبب الأساسي للحرب، وضمنه ذلك الهجوم. ثانيها، أن الحرب لا تجري ضد دولة عربية، وإنما ضد حركة وطنية؛ أي ضد تنظيم "لا دَولَتيّ". ثالثًا، هذه أطول حرب خاضتها إسرائيل في تاريخها، وتعرضت فيها لخسائر غير مسبوقة. رابعًا، تبدو إسرائيل في هذه الحرب، كأنها تستكمل فيها ما حدث في نكبة الفلسطينيين الأولى، هذا ما يفسر أنها خاضت حربها بكل وحشية، مستخدمة قوتها النارية والتدميرية بشكل غير مسبوق، بحيث كبدت الفلسطينيين خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة، مع تسوية 80 بالمئة من مدن غزة وبلداتها بالأرض، وحرمان أكثر من مليوني فلسطيني فيها من مقومات الحياة، المياه والغذاء والكهرباء والوقود والدواء والمأوى؛ وكل ذلك في حرب لا يعرف أحد، حتى بعد سنة، متى ستنتهي؟ أو كيف ستنتهي؟ 

مع كل ما تقدم، فإن إسرائيل، ورغم جبروتها، فقد خسرت كثيرًا، إذ خسرت، أولًا، مكانتها كضحية، بشكل نهائي، فبعد أن كانت تبدو كدولة استعمارية وعنصرية وعدوانية، إذا بها في حربها ضد فلسطينيي غزة تظهر كدولة تمارس الإبادة الجماعية أيضًا، غير عابئة بصورتها في الرأي العام، ولا بالمعايير والمواثيق الدولية والإنسانية. ثانيًا، فقدت إسرائيل في هذه الحرب صورتها، أو مكانتها، كدولة رادعة لمحيطها، فإذا بمحيطها لا يبالي بذلك، كما خسرت في ذلك الصورة التي روّجتها عن جيشها ("قدس أقداسها") الذي لا يقهر، فإذا به يتعرض لضربة قاسية، وإذا به يواصل حربًا في منطقة صغيرة جدًا منذ 12 شهرًا، رغم كل قدراته التدميرية، دون تَمَكُّنه من استعادة صورته. ثالثًا، خسرت إسرائيل مكانتها كملاذ ليهود العالم، بحسب ما كانت تروّجه عن نفسها، فإذا بها، تصبح أكثر منطقة تُهدد حياة اليهود فيها، بسبب سياسات حكومتها المتطرفة إزاء الفلسطينيين، بل باتت قطاعات من اليهود في الدول الغربية تدين سياسات إسرائيل، وترفض أي ربط بين معاداة السامية ومعاداة إسرائيل، تحت شعار: "ليس باسمنا" تتم حرب الإبادة ضد الفلسطينيين. رابعًا، باتت إسرائيل في ظل حكومتها المتطرفة، وبسبب حرب الإبادة هذه، بمثابة عبء سياسي وأمني ومالي وأخلاقي على الدول الغربية، وعلى اليهود في مجتمعات تلك الدول، بخاصة أن تلك الدولة بحكومتها المتطرفة (نتنياهو، سموتريتش، بن غفير)، باتت تقطع مع قيم الغرب الليبرالية الديمقراطية، وتظهر كدولة دينية ويهودية ودكتاتورية (تبعًا لمحاولة حكومتها تقويض السلطة القضائية). خامسًا، بيّنت الحرب هشاشة وضع إسرائيل الأمني في الشرق الأوسط، واعتمادها المطلق على الولايات المتحدة الأمريكية، في حمايتها، ودعمها، من النواحي كلّها. 

في المقابل، بالنسبة للفلسطينيين، فقد شكلت الحرب نكبة جديدة لهم، لا تقل في أهميتها، وتداعياتها الخطيرة، عن النكبة الأولى (1948)، النواحي كلّها، كما بينت ضعف إدراكاتهم لطبيعة إسرائيل، وقدراتها، وامتداداتها، إضافة إلى افتقادهم استراتيجية كفاحية مناسبة ومستدامة يمكن الاستثمار فيها ضمن المعطيات العربية والدولية السائدة.

أيضًا، فقد أدت حرب الإبادة الإسرائيلية إلى تعزيز التعاطف الدولي مع الفلسطينيين، ودعم مطلبهم المتمثل بإقامة دولة مستقلة لهم، بحسب المظاهرات التي عمّت عواصم الدول الغربية ومدنها، وضمنها الولايات المتحدة، وبحسب قرارات المنظمات الدولية. 

لكن الحرب، بالنسبة لمراهنات "حماس"، كشفت عن أخطاء خطيرة، وعن مراهنات قاتلة، وفي غير محلها، فهي اليوم في مأزق كبير، في حين إن شعب فلسطين في نكبة. ومثلًا، فهذه إسرائيل هي التي تصر اليوم على مواصلة حربها الوحشية والعدوانية ضد الفلسطينيين، في غزة، في حين تبخّر وعد"حماس" بزلزلة الأرض تحت أقدام إسرائيل، في معركة أرادتها نهائية، أو تقارب نهاية إسرائيل، في واقع يتشكل على الأرض على شكل نكبة غير مسبوقة للفلسطينيين، الذين تزلزلت الأرض من تحتهم والسماء من فوقهم. 

أما ما يخص مراهنتها على "قواعد اشتباك"، وتوازن رعب، فقد فات "حماس" أنها مقاومة، والمقاومة ليست جيشًا، ولا تحارب كجيش مقابل جيش، وهي لا تمتلك قوة نيران الجيوش، ولا قدراتها التدميرية، سيما أن الأمر يتعلق بإسرائيل، المفتوحة أمامها مخازن الترسانة الأمريكية، وشتان بين صاروخ إسرائيلي ومئات الصواريخ الحمساوية.

لكن أكثر مراهنة تمخضت عن خواء، وعن وهم خالص، تمثلت بقصة "وحدة الساحات"، إذ حتى إيران، زعيمة محور "المقاومة والممانعة"، نأت بنفسها عن ذلك، رغم الضربات القاسية التي وجهتها لها إسرائيل في عقر دارها، وفي لبنان وسوريا، إذ إن كل مداخلات أطراف وحدة الساحات ظلت تحت السقف المتاح، وظلت دون مستوى القدرة على الضغط على إسرائيل لتقييدها، أو لتخفيف حرب الإبادة التي تشنها على فلسطينيي غزة منذ قرابة السنة.

وبينما تطالب "حماس" بوقف الحرب نهائيًا، وانسحاب إسرائيل من غزة، وعودة المهجرين إلى مدنهم وبلداتهم، بل وقبولها بدولة فلسطينية وعاصمتها القدس، وهو ما كانت تتمنّع عن قبوله سابقًا، فإن المعطيات السائدة، لا تسمح بشروط لـ "حماس"، التي بات غائبًا عنها تبييض السجون، وبدل الانسحاب من الأراضي المحتلة (1967) بات الانسحاب من محوري فيلادلفيا ونتساريم في رأس سلم الأولويات؛ بينما إسرائيل لا تبالي بكل ذلك.   

وفي حين تطالب "حماس" بالعودة إلى واقع ما قبل السابع من أكتوبر، فإن هذا الواقع لم يعد موجودا أصلًا، لا جغرافيًا ولا ديمغرافيًا ولا بالنسبة لأحوال الفلسطينيين ومعاشهم، بعد أن حولت إسرائيل غزة إلى منطقة غير صالحة للعيش، مع سعيها الحثيث لتَّخفّف من ثقل فلسطينيي غزة الديمغرافي.

باختصار، فإن هذه حرب أرادتها إسرائيل فرصةً لترويع الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، بمثال غزة، لفرض هيمنتها عليهم نهائيًا، باعتقادها، وشطب الفلسطينيين من الخريطة الجغرافية والسياسية أيضًا. ثمة فرق كبير بين الرغبات والإمكانيات، وبين الواقع والأمنيات.


الصورة: للمصوّر- الصحفي بلال خالد.

ماجد كيالي

كاتب وباحث سياسي فلسطيني

رأيك يهمنا