عام على حرب الإبادة: أيُّ تحديات وآفاق فلسطينية؟

ما أن أكملت الحرب الإسرائيلية على غزة سَنَتها الأولى، حتى عاد شريط تسلسل أحداثها وتفاصيلها الكارثية، ليَتَراءى أمام أعيننا، كما لو أن الحرب قد بدأت للتوّ!

أشهرٌ ثقيلة وطويلة مرّت علينا، حدّ شعورنا أن دهرًا كاملًا قد قضى مِن عمرنا، بالنظر إلى القهر والألم الفائِقين لدرجة التحمل الآدمي، ومرورًا بـقتامة الأفق، وتقاطعات ما يجري مع ظروف إقليمية ودولية مركّبة ومعقدة على نحو أشدّ مما سبق.

والحال أنه بمجرد توقفنا عند ما آلت إليه حرب الإبادة على غزة حتى اللحظة، يبرز سؤالان مركزيّان كأولوية بالنسبة للفلسطينيين في قطاع غزة، والضفة الغربية والقدس، وداخل "الخط الأخضر: وأيضًا الشتات، وهما: متى تنتهي الحرب؟، وما هو سيناريو ما بعدها؟

حقًا، إنهما سؤالان صعبان، بلا إجابةٍ حاسمة حتى اللحظة، سواء من جانب الساسة والعسكر أو حتى أمهر الخبراء الاستراتيجيين، في خضم مراوحة مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة مكانَها، وتضاؤلِ الآمال بنضوج صفقة في الفترة القريبة، وقد يماطلها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، بمنظور مصادر سياسية مُطّلعة.

هناك نظرية استراتيجية تقول إن الأزمات تخلق فرصًا أحيانًا، وإذا ما تحدّثنا عن كارثة غزة بفعل حرب الإبادة طيلة 12 شهرًا، فإن هذا يقودنا إلى السؤال أيضًا: أي فرصة شكّلتها الحرب بالنسبة للفلسطينيين بمختلف مرجعياتهم السياسية والفصائلية، والفكرية، والعشائرية، والمناطقية؟ فهل توحّدوا؟ وهل أنهت الاستقطاب الداخلي، أو على الأقل خَفَضته؟ وهل توجد رؤية فلسطينية موحَّدة بشأن إنهاء الحرب واليوم التالي؟

إذ ما أردنا أن نُقيِّم الواقع كما هو، دون تجميل أو مبالغة أو تسخيف، فإن الإجابة التراجيدية على الأسئلة سالفة الذِكر هي: لا!

هي إجابة تبدو مُحبِطة بعيدة عن الفانتازيا، لكنها واجبة وطنيًا لتوصيف التحدي الداخلي الأبرز وسط حرب متواصلة إلى أجل غير مسمى، وكأنها بلا نهاية واضحة، وربما تنتهي بسيناريو مفتوح متمثل بانتقال إسرائيل عملياتيًا إلى مرحلة "ما بين الحرب واللاحرب"، وهي مرحلةٌ أشد تعقيدًا؛ لأن معنى ذلك أن تعيش غزة بموجب هذا السيناريو كارثة مزدوجة أنتجَتها أصلًا حرب الإبادة.. إذ إنه إضافة لتحوّلها إلى مكان غير قابل للحياة، فإن سكانها سيبقون فاقدين الأمنَ والاستقرار بشكل دائم، ناهيك عن فرض الاحتلال وقائع جيوسياسية جديدة على الأرض كنتيجة للحرب.

أما على الصعيد الإقليمي، فزادت وتيرة الاستقطابات العربية وصراع المحاور بشكل أكبر على إثر الحرب، سواء سرًّا أو علانية، وهذا عامل آخر أفقد الدول العربية والإسلامية القدرة على اتخاذ موقف موحَّد، من شأنه أن يشكل ضغطًا كبيرًا وفاعلًا على إسرائيل وأميركا، لوقف الحرب، والدليل على ذلك هو استمرار الحرب، وانعدام أفق نهايتها.

ويأتي تطور المواجهة العسكرية والأمنية بين حزب الله وإسرائيل، ومرورًا بجماعة الحوثي في اليمن، ليشكّل معطى مؤثرًا على سيرورة حرب غزة ومدّتها، بطريقة أو بأخرى.. فلم يعد الأمر متعلقًا بتهدئة الجبهات الأخرى مقابل وقف حرب غزة، بل تحول بالبعد العملياتي والتكتيكي والاستراتيجي يومًا بعد آخر، بالنسبة لكل من إسرائيل وإيران وحلفائها، إلى ارتباطِ مصيرِ غزة والقضية الفلسطينية برمتها، بتسوية ملفات إقليمية ودولية أولًا. أي أن المعادلة تحوّلت من "وقف حرب غزة كشرط لتهدئة باقي الجبهات" إلى "صفقة إقليمية.. هي شرطٌ لوقف حرب غزة".

والإشكالية هنا أن تطورات القتال في الجبهة الشمالية، وامتزاجها بحروب الظل والتكنولوجيا، يَدُلّ على أن توقيت التسويات متوقف على مزيد من الأحداث والمفاجآت الميدانية في سياق حروب الميدان والظل، التي باتت أكثر استعارًا بين تل أبيب وإيران وحلفائها.

وبالتحليل الزمني، فإن التسوية النهائية لن تكون قبل سنتين تقريبًا، وهي فترةٌ زمنية حبلى بمزيد من الأحداث الدراماتيكية، حتى تبرد الرؤوس الحامية، وتنضج مرحلة التسويات. وبهذا المعنى، يبدو أن تسوية ملف غزة والقضية الفلسطينية مرهونة بمآلات الحروب الإقليمية بهذا المعنى، سواء ببعدها الأمني أو العسكري.

الانتخابات الأميركية المُرتقبة هي الأخرى تفرض نفسها على غزة والمنطقة، والعالم كلّه، إذ إن انتظار نتيجتها هو سيد الموقف، فهل تفوز المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، أو يعود الجمهوري دونالد ترمب إلى البيت الأبيض؟

صحيح أن السياسة الأميركية الخارجية لن تتغير جوهريًا واستراتيجيًا بفوز ترمب أو هاريس، وبالتأكيد ثمة إجماعٌ شعبي عربي على أنه لا فرق بينهما، وأن الإدارة الديمقراطية ممثلة بالرئيس الحالي جو بايدن متهمة بدعم حرب الإبادة على غزة... إلا أن كثيرًا من الحكومات العربية والإسلامية ترى أن مجيئ ترمب يعني انتكاسة أكبر للمنطقة؛ ذلك أن مفهوم ترمب لحسم الأمور يقوم على إرباك أكبر للعرب والمسلمين رسميًا وشعبيًا، وامتهانهم وضغطهم وخنقهم أكثر.

وعلّ ما يؤشر إلى هذا الربط، هو تصاعد وتيرة الأنباء عن محاولات جهات ودول التدخل والتأثير على نتيجة الانتخابات الأميركية، وأن أبرزها إعلان السلطات الأميركية أن قراصنةً إيرانيين حاولوا التأثير على نتيجة الانتخابات، عبر كشف ملفات غير عامة من حملة ترمب الانتخابية، وإرسالها إلى أفراد مرتبطين بحملة بايدن قبل إعلانِه الانسحاب من سباق الرئاسة لصالح نائبته كامالا هاريس.

 وبغض النظر عن صحة الادعاء من عدمه، فإن ما يُمكن استخلاصه هو أنه حتى الدول التي هي على صدام مع الإدارات الديمقراطية، قلقةٌ من سيناريو مجيء ترمب، وتعطي الأمرَ أهميةً كبيرة؛ خشية بعثرة الأوراق وتأثرها سلبًا، وهذا ما يُعرف بمنطق السياسة على أنه "تقليل الضرر نسبيًا"، وهي قاعدة تسري أيضًا على مجريات حرب غزة، وعموم القضية الفلسطينية، وملفات منطقة الشرق الأوسط، بل والعالم كلّه.


استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

أدهم مناصرة

صحافي فلسطيني يعمل في الإنتاج الاخباري والسياسي التلفزيوني، إضافة إلى عمله معدا ومقدما لبرامج إخبارية وحواريّة إذاعية لنحو 15 سنة. كما يكتب باستمرار تقارير ومقالات سياسية واجتماعية، وأخرى ذات صلة بحرية الرأي في العديد من المواقع والصحف العربية والمحلية. وكان قد عمل مديرا لراديو يمن تايمز في العاصمة اليمنية صنعاء عام ٢٠١٣.

رأيك يهمنا