صِناعَة التّاريخ في مُواجَهة الاستنزاف اليَومي المُتَعمَّد

الحياةُ في مجرّة غزة تَختلف تمامًا عن أيّ مكان في هذا العالَم؛ قاسية إلى أبعَد حدّ وأكثر مما في أفلام الزومبي رُعبًا؛ فأن تبدأ يومَك الذي لا ينتهي في الاستماع إلى نشرة الأخبار المحليّة، متنقلًا بين خَبر قصف منزل على مَن فيه، أو احتراق عائلة بأكملها في خيمة بَعد استهدافها بطائرة انتحاريّة إسرائيلية، إلى خَبر آخر عن قَنص مجموعة مسعِفين يعملون على إنقاذ ما تبقّى مِن هياكلنا البشريّة، وصولًا إلى تَجويع ممنهَج يَسرق من الأطفال أحلامهم وحيواتهم، بينما يحاصِرُك الخَوف في كلّ عوالمك؛ ثُمّ بعد ذلك أنت مضّطر أن تَكتب، لأنّك إن متّ، فقدتَ فرصة الجُنون لتَلعن هذا العالَم القبيح.
أن تستيقظ وجسدُك محطّم، كأيقونة فَقَدت ناسكيها، في كنيسة بِلا صليب، أو مَسجد سَقَط مغشيًا عليه، تناثرَت معه الأشلاء، وصار عباد الله يئنون والدم المتدفّق صلاة. تبحث عن ماء لتغسل وجهك، فتجد القليل الذي لا يَكفي فُرشاة الأَسنان وحدها، تهرب كي تَختلي بنفسك في صومعة الحزن/ خيمتك التي صارت ملاذَك بعد تدمير بيتك ومكتبتك، حيث الحرّ الشّديد الذي يلاحِقُك بعد ليلة قاسية مع البَعوض والقَوارض، تجلس منتصرًا على قتل واحدة ومَعك جهاز اللاب توب كَي تَشرع في كتابة نصك الجديد، بعد محاولَة شحن الجهاز بشقّ الأنفس بعد قَطع مسافة تزيد عن سبعة كيلومترات للوصول إلى مخيم الشاطئ جيئة وذهابًا، حيث لا عَرَبات أو سيارات لتنقل الجَرحى والمكلومين إلى المشافي، فكَيف بِكَ وأنت المُترَف الذي تسعى لشحن هاتفك أو لاب توبك. تذهب إلى المخيم كلّ يوم لتملأ البطّارية المَريضة. تجلس وقد تحررت من ليلة كابِيَة ككلّ ليلة، تَفتح الجهاز فإذا بَصوت زوجتك يطالبك بإعداد إبريق الشاي، ولا سكّر في قطاع غزة، تنزل مرّة أخرى، وصراخ جارك الجائع يدفعك لأن تُدندن، بأغنيات لا تَعرفها، ولا صوت فيروز في الجوار، ربما بَعض شتائم أو كُفر بكلّ الدنيا ومن عليها.
تَبحث عمّا تبقى مِن قِطَع البلاستيك أو الحَطَب كي تُشعل النّار، فلا تَجِد إلّا القَليل، لذلك تَذهب نحو العَمائر المنسوفة بجوار ما تبقّى من بيتك، تَدخل مغارات علي بابا وتنتشي فرحًا حين تمسك بيدك قطعة خشب لأثاث يعود لشخص ما، ربما قُتِل أو أُصيب في مكان ما، نتيجة قصف شخص ما، أو خيمة ما أو حتى بُرج ما. أثاث لرجل خسر كلّ ما يملك لأجل شرائه، وها أنت تحاول انتزاع بعضه من بين الركام، لتحرقه أمام عين الله، فتنجرح يدك، يخرج الدم وتبقى قطعة الخشب الصغيرة في إبهامك شاهدًا على معاناتك اليومية، تَعود وأنت تَلعن الاحتلال والعرَب والمسلمين والعالَم.
تُشعل النار، تَضَع الشّاي وتتذكّر بعض الروايات التي تحدّثت عن مخلوقات بَرّاد الشاي المَغلي، تتمتم لنفسك: لقد صِرتَ يا يسري صوفيًا أكثرَ ممّا ينبغي، وصارت هلاوسك تفوق الصوفيين والمَلاحدة. لحظات وصوت زامور ضَخم ينطلق ليوقظ النائمين، إنه صوت شاحنة المياه الحُلوة، "المياه التي لا تصلح للاستخدام الحَيواني، مليئة بنترات مسرطِنة"، لكنّها الشيء الوحيد الذي يبلّ الريق، بعد منع إدخال المياه المُفلتَرة والعصير والمشروبات الغازيّة وحتى المشروبات الروحية؛ تَخرج تُسابق جيرانك، والأطفال بين قَدَميك يحملون جالونات المياه التي وُزّعت عليكم قبيل انتهاء الهدنة بأيّام، لأنّ خزانات المياه في الطوابق العليا تشظّت كالزجاج بعد استهداف العمائر والبيوت ومراكز الإيواء. تصطف في طابور طويل، نِزاع هنا وعِراك هناك، الناس في هَرج عظيم، صِراع من أجل البَقاء، وما أن يصلك الدّور حتى يَفرغ خزّان الشاحنة، يقول صاحب السيارة المتهالكة: "يلّله خلصَت الميّه، تسهلوا (أيّ انقلعوا)". فكيف تدقّ جدران الخزان يا يسري ولا صحراء تردّد الصدى؟ تَعود بجالون أو اثنين، والبقية فارغة كروحك التي تتسع لأن تلتهم الكون.
بَرّاد الشاي المَغلي بلا طعم أو رائحة أو لون، تشربه وأنت تجهّز فُرنَك القديم بما أحضرتَ من الحطب، لأنك غني جدًا، تمتلك كيلو من الطّحين الفاسد، برائحته النتنة، ويجب تجهيز الفُرن للخبيز. تعمل والشمس تقدَح في وجهك، جَسَدك الضّعيف يرتعش، كأنك بحاجة إلى السكّر، أو قطعة حلوة يشتهيها الأطفال منذ عامين، يدُك النازفة مُشَحبَرة، سواد عظيم أكثر من الرئتين اللتين غرِقتا بدخان البلاستيك المسَرطِن، تَغسل يديك بالماء الذي أَحضَره أطفالك، حَمَلوا الجالونات الصّغيرة وجاءوا بها مِن آخر الدنيا، كي تستمرّ دورة الحياة، وأطفالك الذين كان عليهم أن يذهبوا إلى المدرسة كبقيّة أطفال العالَم، أو يحتفلوا بالحياة مع رفاقهم في ملعب معشب أو يشاهدوا التلفاز خسروا كلّ ذلك، وبقيت مدارسهم المدمّرة كشاهد على الألم، والحدائق مقابر لشهداء كُثًر، مرّوا على شريط غزة.
تنتظر الوقت كي يمضي، لتذهب نحو مدرسة عدنان العلمي المجاورة لِسَكنك، تصطف في طابور كالأطفال، بيدك المغمّسة بالألم إناءٌ مضمّخ بالسواد، تَحصل من خلاله على ماء ساخن وبعض حبيبات العدس، يقولون في "التكية" إنه طبيخ، بِلا توابل أو حتى ملح. تشكر الله أنّك نجحت بتوفير غداء لأبنائك، وبطونهم لا تشبِعُها كلّ آيات الصمود.
تعود أخيرًا إلى سقيفتك، صَومعتك، زاويتك في الخَيمة، تتنفّس الصّعداء، لقد آن الأوان أن تكتب وتسجل الخيبات والخذلان أمام الدّم، تفتح جهازك، تسجّل كيف ينتصر الألم على السّيف، كيف تواجه الإبادة بما تكتب، لتصنع هويّة شعبك، بأنك ستعيش رغم كلّ عوامل التّدمير، لَن تُهاجر تحت أيّ ظرف، وستكتب التاريخ كما تصنعه كلماتك اليوم.
ستظل تناضل بدءًا من البَحث عن الحطب وصولًا إلى البَحث عن الكلمات المناسِبة في ظلّ هذه الإبادة التي تحدُث أمام عين العالم حتى تحقّق حلمك في الحريّة والانتصار.

يسري الغول
روائي وقاص باقٍ في شمال غزة.