صَمت الثقافة؟ لأن "الميكروفونات" تُسحَب مِن أَيدينا!

في زمن تُقصف فيه غزة بكلّ ما تَملكه آلة القَتل من ضَراوة، يبدو الحَديث عن الثقافة ترفًا في عُيون البعض، وغريبًا عن اللحظة في عيون آخرين. يرى كثيرون أن الحَرب على غزة هي مَن أغلَقَت الأبواب أمام التّعبير الثقافي والفني.
لكنني، ومن خلال تجربتي الشخصيّة في قلب فلسطين المحتلة، لا أرى في الإبادة الحاليّة السبب الأول لغياب الثقافة عن الحيّز العام. بل أراها نتيجةَ حرب أَطول، حرب بدأت منذ النكبة، ولم تنتهِ يومًا. إنها حَرب على الوعي، على الكلمة، على الأغنية، على اللوحة، على الرّقص، على المساحات الحرّة، وعلى الحلم نفسه.
منذ عقود ونحن نُقمع ببطء، ليس فقط بالهدم والقصف، بل بإفراغ حياتنا من المَعنى. تُستبدل الثقافة بالانشغال اليومي بالبقاء. يُصبح الصمود الاقتصادي شاغلنا، النّجاة من الجريمة أولويّة، مواجهة العنصرية داخل المؤسسات الإسرائيلية جبهة أخرى لا تقلّ قسوة. ويضيق الحيّز، لا لأننا لا نُريد أن نصرخ بأغانينا، بَل لأن "الميكروفونات" تُسحَب من أيدينا، ولأنّنا مُنهَكون.
إنّها سياسَة. نعم، سياسة مَقصودة تهدف إلى إغراق الفلسطيني، وخاصة في الداخل، في صراع دائم على لقمة العيش، على الأمن الشخصي، مع البيروقراطية الإسرائيلية العنصريّة، مع الجَريمة، مع غياب الأمان. تُسحب منّا الطّاقة تدريجيًا. نُهلك ونحن نحاول فقط أن نعيش. ومع مرور الوقت، تُصبح الثقافة آخر الأولويات، رغم أننا نَعلم – ونَعلم جيدًا – أنها الأهمّ، لأنها تَمنح الحياة مَعنى.
هل أخلق فنًّا، أم أبحث عن أَمان؟
لا نملك رفاهيّة الحُلم اليومي، فكيف نملك رفاهيّة التنظيم الثقافي؟
لكنني لا أكتب هذا مِن باب الهزيمة. بل مِن باب الاعتراف. والاعتراف بداية. بداية لمُصارَحة ضروريّة.
علينا أن نعترف أن الصّمت الثقافي اليوم، ليس فقط نتيجة مَجازر تُرتكب، بل نتيجة غِياب بُنية ثقافية آمنة، حاضِنة، مستقرّة، تَسمح لَنا أَن نكون فنّانين لا ناجين فقط.
لقد نَشَأتُ في قرية صغيرة بين جبال الجليل، وتعلمت مبكرًا أن الثقافة ليست رفاهيّة. عندما بدأتُ "الرّاب" كُنت في الثالثة عشرة، وكانت الكَلِمات سِلاحي. غنّيت مَع مَيّ عن الغضَب، عن الوطن، عن القهر، عن الأنثى التي تُحاول أن تتنفس في فضاء مَخنوق. وكنت أَعلم أن كلّ كَلِمة ننطقها، كلّ نغمة، كانت في نَظَر البعض خَطرًا. ليس لأنّنا نهاجم أحدًا، بل لأننا نحاول أن نَكون أحرارًا. حريّة الكلمة أَخطر من البندقية أحيانًا.
لاحقًا، أسّست المقهى. لم يكن مَقهى فقط، بل مُحاولة بناء حيّز ثقافي حيّ، نابض، بديل. لكن حتى تلك المحاوَلة، واجَهَت ما واجَهَته، مِن تضييقات غير مرئيّة، مِن قوانين غير مكتوبة، مِن تعبٍ شخصيّ لا يُروى. الثقافة، حين لا تَجِد وقتًا لسدّ رَمَقِك، تصبح حلمًا مستحيلًا. الثقافة، حين تَجهد كلّ يوم لتأمين لقمة العيش، تصبح عبئًا.
تُقاس حُرية الثقافة بمدى قدرة الناس على الفَرَح، لا على الغَضب فقط. وأنا أرى في عُيون شبابنا اليوم شوقًا كبيرًا، لكنّه مَشلول. يَعرفون أهميّة الفنّ، يَحلمون به، لكن لا يجدون له حيّزًا آمنًا. كأننا نركُض كلّ يوم نَحو جَبَل، لكنّنا نَحمل على ظهورنا حجارة الواقع.
أحيانًا أشعر أن مُرور السَنوات أَخَذ منّا شيئًا فشيئًا الحياة الثقافية. أَراها تتآكل تحت ضَغط اليوميّ. أرى انهيار الكثير من الفنانين والمبادَرات أمام العقبات: دعم مشروط، جمهور خائف أو مُنهَك، نقْص في الموارد، ومُحيط لا يمنحنا شرعيّة الحُلم.
لكنّنا لا نكتُب لِنَرثي، بل لِنَفهم.
ولا نَتراجع عن الثقافة لأنّها لم تَعُد تَليق بالمرحلة، بل لأنّنا نَعي أن العودة إليها يَجب أن تكون واثقة، واعية، متجذّرة أكثر.
في المقابل، لا أؤمن بأن الثقافة هي شَكل من أشكال المقاومة المباشرة.
فالمقاومة لها أَدواتها الميدانية والسياسية والتنظيمية.
أما الثقافة، فهي التي تُمكِّننا من الاستمرار في الحياة لِنَشهَد، هي التي تَروي حكايتنا، وتَنقل صوتنا، وتُظهر للعالم الحقيقة كما هي.
ثقافتنا فعل بقاء.
وعندما نتمسّك بها، فإننا نتمسّك بهويتنا، ونُصبح أكثر قوة في وجه كلّ محاولة لمحو وجودنا.
الثقافة ليست بديلاً عن المقاومة، ولا شكلًا من أَشكالها.
لكنّها ما يساعدنا على الثبات.
هي التي تَنقل رسالة المقاومة، وتمنحها عمقًا ومعنًى، وتدعمها من الجذور.
كشعب فلسطيني في الداخل، نعرِف أن الطريق ليس خطًّا مستقيمًا. وندرك أن المعركة الثقافية لا تُكسب دفعة واحدة، بل هي نَفَس طويل، وقُدرة على الموازنة بين البقاء والإبداع.
نختار أحيانًا أن نأخُذ خطوة للوراء، لا مِن ضعف، بل مِن وضوح. لأنّنا نعلم أن من يحمل هذه الشُّعلة لا يستطيع أن يركض بها دومًا دون أن يَلتقط أنفاسه. نؤمن أن بيننا من سيواصل حين نَتعب، وسَنعود حين نَشفى. هذه دَورة الوعي، وليست علامة على الانكسار.
نحن لا نَصمت، بل نُنْصت.
لا ننسَحب، بل نُعيد التّموضع.
ونَحمل في داخلنا إيمانًا بأن الثقافة – مثل الأرض – تنتظر مَن يحميها، لا مَن يستهلكها فقط.
تنتظر أن نعود إليها أقوى، لا مُنهكين.
وكما قال الشهيد رفعت العرعير:
"إذا كانَ لا بد أن أَموت، فلا بد أن تَحيا أَنت، لتَروي حكايتي".
ونَحن هُنا، لنَروي، ولنكمل. كلٌّ في دوره، وكلٌّ في وقته.

أماني طاطور
فنانة وناشطة اجتماعية ورياديّة أعمال فلسطينية من قرية الرينة، وُلدت عام 1994، تميزت بمسيرة استثنائية في الفن، الريادة والمجتمع، إذ بدأت مشوارها في "الراب" والتمثيل في سنّ مبكرة، وأسست لاحقًا مشاريع مقاهٍ ثقافية في الناصرة وبرلين، كما قادَت مبادرات مجتمعيّة ومهرجانات رائدة جعلت منها رمزًا للإبداع والصمود والتّمكين.