كُتُبي "حَطَبًا"...

كانت مَكتبات غزة كَمَصاطب حدائق بابل المعلّقة، تُزهر علمًا، وتُخرّج العلماء، كانت عقول الشهداء كخزائن الكُتب، كانت تمتماتهم مَعرِفة، وجهلهم كان بالملذّات، ورَسائل الأصدقاء، كانت صحفًا، تؤرخ الحُب، والأيام الزائلة. مكتبتي كانت بين شوارع المدينة، تُنير بروّادها، من كلّ الأعمار، كأنّها حديقة مليئة بالورود، لكن لا شَوك فيها، أينما وَضَعت يدك تستنشق رائحة الوَرَق، لم تَنل التكنولوجيا منها بَعد، حتى غطّى المدينة دُخان العدوان، ولم نَعد نَعرف البيوت من بين الركام، لا وقت للبحث عن الكُتب، فالأشلاء في كلّ مكان، الأوراق تطايَرَت، كفراشات كانت تَبحث عن الزهور، والعقول النيّرة باتت جماجم، تدوسُها جنازير الدبابات، والباقون من أصحاب الكتب هربوا وتركوها وراءَهم، إنقاذ العائلة أهم من إنقاذ المكتبة، المُفاضَلة صعبة، لكّنها خيارات يوم القيامة. المدينة خالية سوى من الأنقاض، لا توجد يافطات تدلّ على وجود حدائق العِلم، نَموت كلّ يوم للبحث عن أَخبار المكتبة كالبحث عن أخبار القصف والأحياء. يَمُرّ أحدهم حاملًا كيسًا مليئًا بالكتب، ما هذا يا فتى!!، فيردّ: إنه حطب الشتاء، كان عليه أن يَحرق ٢٠٠ كتاب كي يُنقذ عائلته من البَرد، فيما حرَقَ المدرّس والباحث مكتبته بيده، فكان يجب أن يَحرق ١٠٠٠ كتاب مِن أجل وجبة غذاء واحدة. كم وجبةً طهى لعائلته، وكم كتابًا حُرق حتى اندثرت جميعها!! وانقطع حتى الماء، حتى مات هو ومكتبته المليئة بالورود، فلا أَحَد يزرعُها بعد الآن، لتُزهر من جديد، لم يَعُد هناك شيء يدلّ على مصاطب غزة العلميّة، حتى من حَمَلوا العلوم في عقولهم ماتوا جياعًا أو مقصوفي العُمر، فما فائدة علم التاريخ وأَنا بلا طعام، وما فائدة الرياضيات، وأنا ليس لديّ المال، وما فائدة الفلسفة والحكمة في قَلب الموت، وما فائدة الجغرافيا ولا مَساحة أضع فيها خَيمتي، وما فائدة حقوق الإنسان بلا وجود إنسان، وما فائدة العَدالة بلا ميزان، فحتى ميزان البَيع تحطّم مع البسطة وتناثرت حبات الخُضار كتناثر تلك الأشلاء. القرآن والإنجيل حاضران في التأبين، وتراتيل الوداع أهم من أنشودات المعرفة. كانت الحكمة القديمة تقول إن الغَباء يَقتل صاحبه، لكن ما فائدة الذّكاء الآن، لقد مِتنا أذكياء وأغبياء، الحَرب لا تختار نوعيّة الضحايا، إنهم أرقام، سيصبحون على رفوف المقابر بدلًا من رفوف المَكتبات، هناك كتب كثيرة كان ممكنًا أن تكون موجودة، مليئة بالمعرفة، مليئة بالدهشة، لم تُكتب لِمَوت صاحبها قبل أن يَلفظ إبداعاته الأخيرة.
في الحرب لا فائدة من الإبداع، فالكاتب حَرَق مكتبته ليدفئ أولاده من بَرد اللجوء، والرسام جَعل من لوحاته الزيتيّة غطاء لخيمته مِن شتاء الحرب، والمؤرّخ فَقَد ذاكرته بعد أن قُصف أرشيفه وعائلته، والشاعر أَبياته حَطَبٌ لطبق العشاء أو طارت مع الأطباق الورقيّة للأطفال لتُخبر من تصله عمّا حلّ بكل هؤلاء ... الإبداع الوَحيد فقط هو النجاة.
وماذا عن كتب تاريخ غزة!، قُلْ نِصفها حَرَقه الاحتلال، والنصف الآخر كانت حَطَبًا لبَرْد المشرّدين، ودُخانها استنشقته الطيور المهاجرة لتُخبر العالَم عما حلّ بالمدينة...
لقد سَقَطت كتبت الإمام الشافعي شهيدة بعد أن كانت شاهدة، وحُرقت كتب الطبّاع التي تتحدث عن تاريخ المدينة، ولا بقايا لكتب إبراهيم سكيك، ولا عارف العارف، فقد تبخّرت جميعها، بعد أن اندثَرَت الأماكن القديمة، تبعثَرَت قصائد ابن زقاعة الغزّي، وتحطّمت الكُتُب الحجريّة كتحطم أسقف دار قبة السعادة، وسباط العلمي، وسباط كساب. أخيرًا وجدت أحد فلاسفة غزة، إنه يمشي هناك... هل أنت على قيد الحياة!... كان قد كتب عَن حياتنا الاجتماعية، حتى فَقَد عقله بعد أن فَقَد عائلته، أما عالِم الاقتصاد، فقد أصبح يحسب محتويات كرتونة المساعدات، اتّضح أنّ هناك نقصًا في الملح والزيت، جُنّ جُنونه، طارت الأوراق المتبقيّة مع الطّيور المهاجرة، لتخبر العالَم عمّا حلّ بالمدينة، سقط أحدها على ميناء اندثيون القديم، مكتوب فيها: هنا كانت أقدم جامعة ومكتبة يونانية في العالم، ها قد حُرِقت اليوم كلّ الجامعات، فيما تسلّلت ورقة إلى داخل أحد معسكرات الاحتلال مَكتوب فيها: غزة مقبرة الغزاة ....
