الثّقافَة كَجَدوى مُسْتَمِرّة

في ظلّ الإبادة المُستمرّة في قطاع غزة، لا تُختَبر فقط قدرة الإنسان على البَقاء، بل تختبر أيضًا قُدرة الثقافة على الصمود. ما يَجري ليس مجرّد تدمير للأرواح والمَباني، بل محاولة ممَنهَجة تستهدف كلّ مكونات الحياة، وفي مقدّمتها الإنسان نفسه، في مسعى لطمس الهويّة الجمعية والذاكرة الثقافية لشعب بأكمله. أَمام هذا الواقع، تَقِف الثقافة كَخَط دِفاع أَخير عن المَعنى، والكرامة، والوجود. إنها الشّاهد، والفاعل، والوسيلة التي تَرفض المَحو وتُقاوم بالقول حينما يُراد لنا الصمت.

وَسَط هذا الدّمار الهائل، لم تَسلم المساحات الثقافية مِنَ القَصف، ولم يَنج المبدعون مِن الاستهداف المباشر أو التهجير أو فقدان أدواتهم ومساحات تَعبيرهم. ومع ذلك، وكما كانت غَزة دومًا كالعنقاء، تنهض مِن الرّماد، فإن الثقافة لم تتراجَع أمام الموت، بل تقدّمت إلى الصُّفوف الأولى، تَحمل الحِكاية والصّورة والصّوت، تَرفض الغياب، وتقاوم بالمستحيل.

لم تَستهدف الإبادة الجسدَ فقط، بل استهدفت الذاكرة والرّواية وحقّ التعبير. تضرّرت المراكز الثقافية، والمكتبات، واستوديوهات الفنانين، وفَقَدت الساحة الثقافية رموزًا مهمة من كتاب وفنانين وصحافيين، إما بالقصف، أو بالتّهجير أو بفقدان أدواتهم وفضاءات إنتاجهم. لكن هذا الدمار لا يقف عند حُدود البنية التحتية؛ إنه يهدّد النسيج الثقافي ذاته، ويضعِف قدرة الناس على الحلم والتأمّل والتّعبير.

في غَزة، لم تَكُن الثقافة يومًا ترفًا أو هامشًا، بل كانت دائمًا ممارَسَة وجوديّة، وأداة مقاومة، وآلية لبناء الهوية وإعادة إنتاج المعنى في مواجهة العَبث والفوضى الممنهجة. وقد طالت الإبادة كلّ ما يحفظ الذاكرة الجمعية للفلسطينيين، من المسارح إلى المكتبات إلى أرشيفات الصورة والصوت، وتوقّفت كثير من المبادرات الثقافية، أو أجبرت على التحوّل، أو طُمست تمامًا.

في هذا السياق، شَعَرنا نحن، العاملين في الحقل الثقافي، أن أدواتنا تُسرَق منّا واحدة تلو الأخرى. ومع ذلك، لم نتوقّف عن محاولة إعادة إيجاد وسائل البقاء، ليس فقط للبَقاء أحياء، بل للبقاء حاضرين في الحكاية. الثقافة هنا ليست رفاهية، بل هي ما تبقّى لنا لنقول: نحن هُنا، نملك سرديّتنا، ولغتنا، وحلمنا.

لم تقتَصر التحدّيات على فقدان الأماكن والمَوارد، بل شملت أيضًا إعادة تعريف دورنا كممارسين ثقافيين في واقع مهدّد بالفناء. نَعيش خطرًا يوميًّا، نُهجّر، ونَفقد أرشيفاتنا، أدواتنا، وحتى جمهورنا، الذي بات مشتتًا في مَراكز الإيواء ومخيمات اللجوء. ومع ذلك، نواصل العمل بوسائل بديلة، مبتكرة، متكيفة مع واقع الطوارئ. نُرَقمن ما يمكن رَقمنته، نَبتكر مساحات افتراضيّة، ونعتمد أشكالًا مبسّطة مِن التّعبير العابر للحدود، لأن ما نكتبه أو نغنيه أو نرسمه، بات أداة توثيق وصوتًا لا يمكن إسكاته.

استراتيجيّاتنا في التكيّف لم تأَت مِن فراغ، بل مِن حاجة مُلحّة للبقاء الثقافي، ومِن وعي عميق بأن الحَرب لا تَستهدف الجَسَد فقط، بل تستهدف أيضًا الوعي والذاكرة. لذلك، لم نتوقّف عن العَمَل مع الأطفال، أو تقديم عُروض مسرحيّة مصغّرة في مدارس النزوح، أو عقد ورش فنية بأبسط الإمكانات. وسط هذا كلّه، برزت جهود فردية وجماعية تشكّلت كجُزُر مقاومة ثقافية، لا تقلّ أهمية عن أيّ خطّ دفاع إنساني أو سياسي.

بَرَزت في هذا السياق أدوار محوريّة لبعض المؤسسات، مِثل مؤسسة عبد المحسن القطان، التي رغم التهجير القَسري لموظّفيها والتّدمير الجزئي لمقرها الثقافي في غزة، لم تتوقف عن العمل، بل أعادت بسرعة توجيه برامجها لتلبية الحاجات النفسية والثقافية المُلحّة، خصوصًا للأطفال واليافعين في أماكن النزوح. وظفت المؤسسة أدوات الفن والثقافة في مجالات الإسعاف النفسي الأولي، من خلال جلسات تعبير فني وورش عمل في الكتابة الإبداعية، والفنون البصرية، والسمعية-البصرية، والفنون الأدائية، ما أتاح للمشاركين التعبير عن مشاعرهم في بيئة مأزومة. كما دعمت الفنّانين والممارسات الثقافية المستقلة عَبر تمويل طارئ لتعزيز صمودهم، وخصّصت كامِلَ منحها المالية لعام 2024 لدعم المبادرات الثقافية والتربوية في قطاع غزة. وعززت قدرات المعلّمين والمعلّمات لتوظيف أدوات الثقافة كوسيلة لتعويض الفاقد التعليمي ودعم المبادرات التعليمية، وساهمت في توفير مساحات تربوية وثقافية ميدانيّة آمنة – إلى حدّ ما – رغم الظروف الصعبة.

كما واصلت مؤسسة تامر للتّعليم المجتَمَعي دورها الحيويّ في تمكين الأطفال واليافعين من خلال تشجيعهم على القراءة والكتابة الإبداعيّة، وخلق مساحات آمنة للفنون والتّعبير الذاتي داخل بيئات النّزوح الصعبة. وسعت المؤسسة إلى تعزيز قُدرات الشباب على استخدام الأدوات الثقافيّة كوسيلة لفهم واقعهم، والتعامل مع الصّدمات النفسية، وبناء هويّتهم، مما أسهم في تنمية وعيهم الذاتي والتمكين المجتمعي رغم الظروف القاسية التي يمرّون بها.

كما كان لمعهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى حضورَه الفاعل خِلال الإبادة، حيث سعى إلى الحفاظ على استمرارية تَعليم الموسيقى في ظلّ أقسى الظروف، مِن خلال برامج دعم نفسي وفنّي للأطفال، وتنظيم دروس موسيقيّة رقميّة ولقاءات عبر الإنترنت مع طَلَبَته في غزّة والشّتات. وقد ركّز المَعهد على استخدام الموسيقى كوسيلة للتنفيس والتعبير ومواجهة الصدمة، مؤكدًا أن الصوتَ لا يُقصف، وأن النّغمة يمكن أن تكون جسرًا يعيد للطفل شيئًا من الأمان والجَمال وَسَط الرّكام. هذا الدّور يرسّخ الموسيقى كأداة للشفاء، ويُعيد تموضعها كجزء أصيل من استراتيجية البقاء الثقافي في غزة.

كما قامَت جامعة دار الكلمة، بلَعب دور تضامني ومهني تجاه غزة خلال الإبادة، مِن خلال دعم الطلبة والفنّانين في القطاع عبر بَرامج توثيق وتدريب رقميّة، وتوفير مساحات افتراضية لعرض الأعمال الفنيّة والتعبيرية القادمة من غزة. كما عَمِلت على إيصال صوت المبدعين الغزّيين إلى العالم، وتوظيف الفنّ كوثيقة وشهادة على الانتهاكات، مما ساهم في تعزيز حضور الرواية الفلسطينية في المحافل الثقافية والحقوقية الدولية.

 إلى جانِب هذه الجُهود المؤسسية، لم يتوقّف الفنانون والفنانات والعاملون والعاملات في الحقل الثقافي – بمختلف خلفيّاتهم وتجاربهم – عن المبادرة. رأينا مَن يرسم على جدران مدمّرة، مَن يغنّي وسط الأنقاض، مَن يصنع تماثيل مِن الرّكام، ومَن يكتب الشعر في الظلّ أو في المنفى، حاملًا نبض غزة إلى العالم.

ما نقوم به اليوم يتجاوز الإنتاج الثقافي؛ إنه فعل مقاومة. نتمسّك بالثقافة كجدوى مستمرة للحياة، نَرفض أن نكون ضحايا بلا صوت أو رواية. نُدرِك أن القصيدة لا توقف القَصف، لكنّنا نؤمن أن الكلمة تفضح، توّثق، وتواجه المَحو، وتمنح الناس فسحة أمل، حتى لو كانت مؤقتة. الثقافة تمنحُنا لغة للحب، وسلاحًا للنجاة، ومنصة للمساءلة.

ومع ذلك، فإن المقاومة الثقافية تَحتاج إلى حاضنة ودعم. لا يكفي الإبداع وحده إن تُرك بلا حماية أو موارد. من هنا، نوصي باعتبار الثقافة جزءًا لا يتجزأ من أي استجابة إنسانية أو مجتمعية في غزة. نطالب بإنشاء صندوق طوارئ ثقافي عاجل، بآليات لحماية الفنانين من الاستهداف، وبوسائل لوجستية ورقميّة لحفظ الأرشيف الثقافي الفلسطيني قبل أن يُطمس. كما نحتاج إلى شَراكات دولية تعزز التّضامن الثقافي، وتمنح الفنانين نوافذ للانفتاح على العالم دون المَساس باستقلاليتهم.

في غزة، لا تُقاس الثقافة بعدد الفعاليات أو المهرجانات، بل بقدرتها على مَنح الناس أداة للبقاء في وجَه محاولات النفي. وكلّما امتدت الإبادة، امتد صوت الثقافة كفعل مضاد، كمرآة للحقيقة، وكشاهد لا يَسكُت على جريمة لا تَسقط بالتّقادم. نكتب، نرسم، نغنيّ، ونروي – لا لأننا أقوياء، بل لأننا لا نملك تَرَف الصّمت.

إبراهيم عبد الله الشطلي

مدير مركز القطان الثقافي في غزة.

رأيك يهمنا