تَطْريزُ نِضال.. وحِكاياتٌ مِن غُرَز

عَن "تَشبيك وتَطريز"، وهذا المَنْفَس، وتلك المساحة الآمِنَة في ظلّ تكميم الأفواه في الداخل الفلسطيني.
بَعد تَعرّضي لتجربة اعتقال وتحقيق فظّ بَعد أحداث السابع من أكتوبر، وَجَدت في التّطريز والحلقات النسائية مَساحة للتعبير والمشاركة والتفريغ. بالفنّ بتّ أُقاوِم.
أذْكر جيدًا تعرّفي على التّطريز الفلسطيني من خلال بَحث أجريته خلال دارستي لنيل درجة الماجستير بموضوع دراسات نسوية وجندرية في جامعة حيفا، حول اللّباس الفلسطيني خلال سنوات النّكبة الأولى، إذ ثمة شعور رافقني خلال تلك الدِراسة البحثيّة وهو الشّعور بالخَجل.
نعم بالخَجل! كيف لي أن أَكون فلسطينية ولا أعرف ما أهميّة التَطريز الفلسطيني - الفَن النّسائي الأعظَم!
ومنذ ذلك الحين، عاهَدت نفسي أَن أتعلّم كيفيّة ممارسة هذا الفنّ، والأهم أن أُعلّمه وأنشُر المعرفة على أوسع نطاق.
يرافقني في الحلقات كلّها اقتباس من الأديب سَلمان ناطور "ستأكلنا الضّباع إن بَقينا بِلا ذاكرة"، ونَحن نِساء فلسطين عَلينا مسؤوليّة حِفظ الذّاكرة وحماية المَوروثات الثقافيّة وأهمها التّطريز.
بعد السابع من أكتوبر تغيَّر مفهوم التعبير والحرية بالكامل، وعندي أَنا تحديدًا بات شِبه مَعدوم، وممنوعًا رسميًا، فاتّخذتُ حلقات "تَشبيك وتَطريز" منبرًا فنيًّا حُرًّا لي ولأخريات كُثُر.
باتَت هذه الحَلقات تَجوب مُدن وقرى هذه البلاد المَنكوبة مِن شمالها حتى جنوبها، وفي الضفّة والشّتات.
مع كلّ غُرزة وكلّ لقاء تَنبت زَهرة أَمل جديدة في قَلبي، إيمانًا منّي بنجاح هذا النوع من النِضال..
نضال فلسطيني فِعلي من نوع آخر.
كانت آخر حلقة في حيفا ضِمن فَعاليات يوم الطّالب العربي- البديل لطلاب معهد التخنيون، كان لقاءً خاصًّا، حيث شارك أكثر من 60 طالبًا وطالبة في وَرشة تَطريز جماعيّة – لقاء شكّل جِسرًا بين الأجيال، ومثالًا على كيف للفنّ أن يَدخل الجامعات والمعاهد الأكاديمية كَأداة مقاومة ومَعرفة.
ما ميّز هذا اللقاء أنه كَسَر القَوالب. فجأَة، دَخل التّطريز الذي طالما وُصف بأنه "تُراث تقليدي" إلى ساحة الجامعة.
شاهدتُ بأُم عيني كيف تحوّل هذا الفن، في نَظر الطلاب، من مجرّد رموز قديمة إلى لُغة سياسيّة، نسوية، ووجودية.
قالَ لي أَحَدُهم بَعد اللقاء:
"لم أتخيل أن قِطعة قِماش وخَيطًا يمكن أن تَختَصر كلّ هذا الكَم مِن التاريخ والقَهر".
أَمّا عَن لقاء رام الله فقد كانَ واحدًا مِن أَعمق اللقاءات التي مرّت عليّ، ليس فقط بسبب دفء الحضور، بل بسبب القِصص التي نُسِجت في هذه الحَلقة. كانت النّساء يَجلسن حَول الطاولة، كلٌ تَحمل خيطًا وقِطعة قماش، لكنّ ما حَمَلَته أرواحهن كان أَثقل بكثير مِن أدوات التّطريز.
وَسَط تَبادل النّظَرات والكلمات، رفعت إحدى النساء يدها وقالت:
"أُريد أن أشارككم شيئًا عن جدّتي..."
ثم بدأت تروي:
"في مرّة وعند زيارتي لجدتي لم تكن تمتلك أقمشة للتطريز، فعلّمتني التَطريز على مَحْرَمَة، لأنّها كانت تعتبر أنّ إتقان هذا الفن واجب لا تَرَف، وأنه رغم انعدام المَوارد، لا يمكن أن نفقد هذه المَهارة التي تَحمل ذاكرتنا الجماعية".
كان في صَوتها رَجفة، وكأَنّ الجدّة كانت بيننا، تمرّر المَحْرَمَة بين الأيادي.
ثُم تحدّثت امرأة أخرى، وقالت بصوتٍ مملوء بالفخر والانتماء:
"جدّتي تَعلّمت التَطريز اليافاوي مِن عائلة لاجِئة هجّرتها النَكبة من مدينة يافا. لجأت تلك العائلة إلى بيتنا في الضّفة، وهناك، في ظلّ التّهجير والشّتات، انتقلت الغُرَز والرُموز كما تَنتقل الحكايات".
لكنّ اللحظة الأهم التي اختزلت كلّ معاني اللقاء كانت مفاجأة لم تتوقّعها أيّ منّا: امرأتان جَلَستا صدفة إلى جوار بعضهما، إحداهما مِن الخليل، والأخرى جاءَت مِن أميركا، واكتشَفَتا أنهما من العائلة نفسها، وتعرّفَتا لأول مرّة في هذا اللقاء، داخل حلقة تَطريز، وَسَط الخيوط والكَركبة.
كانت لَحظة صامِتة.
أكّدت لي تِلك اللحظة بالذات مرّة أخرى أن ما أَقوم به من خلال "تَشبيك وتَطريز" لَيس مجرّد فَن، بل عَمل سياسي، إنساني، وجداني، يُعيد ترميم ما مزّقته الحدود والمسافات، ويَمْنَح النساء مَساحة لإعادة تَشكيل علاقتهن بالذات وببعضهن البعض، عبر فنّ مقاوم مهم.
وفي الشّتات، تحديدًا في عمان في مَرسَم أم جنين..
دخلتُ اللقاء وأنا أَحمِل في قلبي قَلقًا ممزوجًا بالشّوق: كيف ستكون ردّة فعل النساء في الشّتات؟ هل سَيَشعرن بالقرب؟ أم أن المسافات، والحدود، والغُربة، أَحدثت قطيعة لا تُرمّم؟
لكن مُنذ اللحظة الأولى، كان واضحًا أن لا شيء قادرٌ على قطع هذا الخَيط الفلسطيني، ذاك الخيط غير المرئي الذي يربِطُنا، أينما كنّا.
استقبلتني النّساء في عمّان بِحَماس كبير، بِعيون لامعة وأسئلة متلهّفة. قالت بعضهنّ لي:
"نُريد أن نعرف ماذا يَحدث في الداخل، نُريد أن نَفهم كيف تقاوم النساء اليوم، ماذا تَفعلن؟ كيف تُعبّرن؟ كيف تَصمدن؟".
شَعَرت أنّهن كنّ ينتظرن هذا اللقاء ليس فقط ليتعلّمن التطريز، بل ليسترددن جزءًا من انتمائهن العميق، ذلك الذي لم تستطع سنوات النّفي والمخيمات محوَه.
تَحدّثنا عن الغُرَز اليافاوية، وعَن التّطريز مِن غزة وجنين، وعن كيف أن كلّ نمط يحمل حكاية مَنطِقة، وامرأة، وبيت.
أَذكر جيّدًا واحدة مِن النساء قالَت لي:
"رَجّعتيني على البلاد"
لخّصت عبارتها جوهر اللقاء، وهو أن التّطريز، حين يُمارس بوعي، يصبح وسيلة لاجتياز الحدود.
خرجتُ مِن اللقاء بِقَلب ممتلئ. شَعَرت أنّنا كَسَرنا الجدار بين الداخل والشّتات، لا بالشعارات، بل بالإبرة والخَيط.
في عمّان، كما في رام الله وحيفا ويافا والناصرة وباقي المدن، اكتشفت من جديد أن "تَشبيك وتَطريز" ليس مشروعًا فنيًا فقط، بَل عمل نضالي، وأن الحفاظ على التطريز الفلسطيني هو واجب تحديدًا في ظلّ الحروب المستمرة على هذه الأرض.

آيات زعبي أبو إسحق
مبادرة وناشطة اجتماعية، حاصلة على اللقب الثاني في الدراسات الجندرية من جامعة حيفا. تعمل كموجهة ومرافقة في الشؤون التنظيمية والإدارية للمؤسسات في قطاع التشغيل والموارد البشرية، حيث تساهم في تطوير استراتيجيات التوظيف وتعزيز بيئات عمل دامجة وداعمة.
صاحبة محترف "حرف"، وهي مساحة للفنون المرئية ومشروع مشترك مع زوجها الفنان محمد أبو إسحق. انطلقت "حرف" قبل خمس سنوات في قلب السوق القديم، وتسعى للحفاظ على اللغة العربية والموروث الثقافي.