صناعة الببغاوات الصحافية في الحرب الإسرائيلية على غزّة

منذ السّابع من أكتوبر بدت مهنة الصحافة بكل أجناسها؛ المكتوبة والمسموعة والمرئيّة، وكأنها فضاء جديد كليّا، لكنّه مظلم وعليك أن تتعلّم دخوله مجدّدًا وبحذر، وتسلك طرقات مختلفة ومتعرّجة أحيانًا، كي لا تبتلعك ظلمة الطريق. أصبحت المهنة حملًا ليس خفيفًا، وليس من السهل حفظ التوازن تحت وطأته.

ومع بداية الحرب، أصبح السؤال والتمحيص والنبش عن أبسط الإجابات، خارج نطاق بيانات النّاطق بلسان الجيش الإسرائيلي، جريمة متكاملة، وفي عالم الصحافة هذا انتحارٌ للمنطق؛ فالصحافة هي مهنة الأسئلة، لا الإجابات. 

كان واضحًا ،منذ اللحظات الأولى لإعلان الحرب، لكلِّ من يقرأ ويتابع ويدرس ويعمل في الإعلام، بأنّ هذه المرّة ستكون الحرب الإعلاميّة شرسة للغاية ولا تقلّ ضراوة عن الحرب العسكريّة في الميدان، فالسّابع من أكتوبر شكّل صدمةً جماعية وضربة موجعة لإسرائيل - كل إسرائيل بشعبها وقادتها وجيشها وأجهزة استخباراتها، وإسرائيل التي دفعتها الروح الانتقامية للقتال واستعادة الهيبة، لا الاستراتيجية العسكرية، بحاجة إلى حاضنة شعبية ودعمٍ واسع لشرعنة استعمالها القوة المفرطة وتبريرها، ولاستعادة الثقة - ثقة شعبها فيها قبل كلّ شيء.

تغطية أم غطاء للإخفاق؟

الإخفاق المُحرج المدوّي لإسرائيل، عالميًا أوّلا، وهي الدولة التي لطالما سوّقت نفسها وجيشها بأنّه "الجيش الذي لا يقهر" ناهيك عن التبجّح بالتفوّق التكنولوجي والعسكري والاستخباراتي، دفع العديد من دول العالم للإيمان بكفاءاتها وبالتالي شراء برامج التجسّس الإسرائيلية الدقيقة وعالية الجودة – كما تُسوّقها إسرائيل.

أمّا الإخفاق الثاني، على المستوى المحلّي والشعبي - الاسرائيلي، فأحدث زلزالًا لا زالت ارتداداته تضرب بقوّة ثوابت ومسلّمات ومعتقدات لدى الإسرائيليين كانت مترسّخة ولا ريب فيها قبل السّابع من أكتوبر، أمّا بعده فاختلف المشهد، وأصبحت الصورة سوداوية وقاتمة؛ وهي أنّ جيشهم بكل تفوّقه العسكري والتكنولوجي غير قادر على حماية مواطنيه وتوفير الأمن لهم، وهي من الشروط الأولى وأهمّها لتشكيل المجتمعات واستمرارية الحياة، ما أدّى إلى تعميق أزمة الثقة ما بين الشعب والقيادات السياسية والعسكرية، والتي أصلًا كانت حاضرة وبشدّة قبل بداية الحرب، ولها أسباب عديدة أبرزها الخلاف، أو التناحر إن صحّ القول، بين اليمين والوسط - يسار حول التعديلات القضائية التي أرادت الحكومة الحالية دفعها مباشرة بعد وصولها سدة الحكم.

أمام هكذا إخفاق كبير، بمستوييه العالمي والمحلّي، كيف ستتصرّف إسرائيل؟ وكيف يمكنها رأب الصدع؟ وكيف ستخبر الحكومة جمهورها بأنّها أخفقت؟ وبما أنّها لن تفعل ذلك ولن تعترف بالفشل، حفاظًا على "الإيجو القومي"، لربّما الأجدر بها أن تُغطّي على هذا الفشل، لضمان هدوء الشارع الإسرائيلي، وهي مهمّة ليست سهلة.

لتنفيذ المهمة، كان على الدولة تجنيد الإعلام الإسرائيلي، وكذلك كبرى المؤسسّات الإعلامية العالمية، الذي يلعب دورًا أساسيًا في تشكيل الوعي والرأي العام، وسرعان ما انقسم كل حديث ومقالة رأي وحوارية وفيديو إلى ثنائيّة "داعمة أو رافضة للإرهاب" ولا خيارات أخرى بينهما، إمّا أن تتبنّى الرواية الإسرائيلية أو أنّك داعم للإرهاب، أو كما وصفها زعيم المعارضة الإسرائيلي، يائير لابيد، 

في تصريحات للصحفيين: “إذا كان الإعلام الدوليّ موضوعيا، فإنه سيخدم حماس، فإذا أظهر الجانبين -بنفس القدر- فهو يخدم حماس".

منذ الأيّام الأولى للحرب، تلقّت بعض وسائل الإعلام المحلية داخل الخطّ الأخضر تحذيرات من السلطة الثانية للإذاعة والتلفزيون بسبب استخدام مصطلحات معيّنة، مثلا: "مقاومة" حتى لو كان ذلك ذكرًا حرفيا لاسم الحركة، فحماس ما هي إلّا اختصار لـ"حركة المقاومة الإسلامية – حماس" علاوةً على تجريم كلمة "شهيد"، ولم تسعف أيّ تفسيرات ثقافية واجتماعية لمعنى كلمة "شهيد" في ثقافتنا، كشهيد لقمة العيش على سبيل المثال، ناهيك عن مضايقة الصحافيين الميدانيين، وفي عدّة حالات خلال البث المباشر وكذلك بعض الاعتقالات التي طاولت بعض الصحافيين بسبب النشر في وسائل الاتّصال الاجتماعي.

ترتيب الأوراق ممنوع!

أبهرنا الإعلام الإسرائيلي خلال تغطيته لهذه الحرب بحضيض جديد، أكثر عمقًا وسحقًا من كل ما سبق، ليس فقط في تضليل الرأي العام الإسرائيلي وتجاهله الكارثة الإنسانية والدمار الأكبر لمدينة ما منذ الحرب العالمية الثانية وقتل نحو 30 ألف غزّي، بل وبإنتاجه خطابًا فاشيا صريحًا؛ فدعوة لقتل 100 ألف غزيّ في ضربة واحدة في أكثر القنوات مشاهدة تمر مرور الكرام، دون محاسبة أو حتى استنكار.

أمّا بخصوص الحجج التي حاول الناطق بلسان الجيش تمريرها لتبرير المأساة والكمّ الهائل من الخسائر المادية والبشرية، فقد استطاعت شعوب العالم، التي تتابع تفاصيل المأساة ببث حيّ ومباشر، تفنيدها الواحدة تلو الأخرى بالإضافة لوسائل إعلام (ليست محايدة بالمناسبة)، بسبب عدم توافر الأدلّة أصلا، ابتداء من كذبة قطع رؤوس 40 رضيعًا التي انتشرت كالنار في الهشيم، والتي رددّها كبار "قادة العالم" وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي، جو بايدن، مرورًا بتفنيد بعض مزاعم الاعتداءات الجنسية على النساء الاسرائيليات وحتى اكتشاف جدول "أيام الأسبوع" في مستشفى الرنتيسي، وكأن الجيش وقع في فخّ فبركاته متناسيًا أنّ وسائل التواصل الاجتماعي ومستخدميها باتوا قادرين على كشف زيف ادّعاءاتهم.

والآن، كيف نسمح لأنفسنا كصحافيين، ترديد كل هذه الحجج الضعيفة والمثيرة للسخرية وأن نتحول لببغاوات صحافية لترضى عنّا إسرائيل ونحن أبناء القضية؟

علينا الاستعداد جميعا للمرحلة القادمة، وأنّ نلتف حول المؤسّسات الصحافية التي تحاول حماية حقوقنا، وكيّ لا تجرّدنا الرواية الإسرائيلية من إنسانيّتنا أولا قبل كل معيار مهني، وأن تكون لنا مقولة سياسية ومهنية جماعية واضحة لا لبس فيها: كل تغطية صحافية لأي حرب كانت أو معركة لا تتناول السياق الاستعماري ونكبة شعبنا ولا تنطلق منه هي تغطية غير دقيقة، وغير مهنية وغير عادلة.

زهرة سعيد

صحافية وباحثة فلسطينية

شاركونا رأيكن.م