الحرب على غزة.. الإعلام في حضرة الموت

يدفع الصحافيون والصحافيات في قطاع غزة ثمنا باهظا لتغطية الحرب الإسرائيلية على غزة، التي استشهد فيها عدد كبير من القتلى والجرحى في صفوفهم، لإيصال حقيقة ما يحصل في الميدان، لكن الناجين منهم يواجهون الموت المؤجل في ظل القصف الإسرائيلي المتواصل للقطاع، فضلا عن الصعوبات في الاتصالات والتواصل والعمل والقلق على عائلاتهم.

تصطدم التغطية الإعلامية للحرب على غزة بعقبات عدة وتواجه تحديات البقاء والصمود وحتى الموت للصحافي، إذ ترفض المؤسسة الإسرائيلية منح التراخيص للصحافيين ووسائل الإعلام الغربية والأجنبية لدخول القطاع.

أتت هذه المعيقات والعقبات من أجل أن تتحكم وتتفرد ماكينة الدعاية الإسرائيلية بمشاهد ما ينشر عن الحرب على غزة، وإلزام الإعلام الأجنبي الاعتماد على السردية الإسرائيلية، وتجنّب نشر وبث مشاهد الدمار والموت والدماء التي تجدها فقط على بعض شاشات الفضائيات العربية.

كشفت الحرب على غزة بدورها عن سقطات مهنية للإعلام الأجنبي وكذلك للصحافة الإسرائيلية، وتحيز لا مثيل له لتجريد الإنسان الفلسطيني من إنسانيته من خلال استخدام مصطلحات وتعابير معينة، وحتى اعتماد سياسة الرقابة العسكرية، فضلا عن الرقابة الذاتية، وهو الإعلام الذي يتشدق دائمًا بحقوق الإنسان والحريات، فالضحية الفلسطينية لا تنال ذات عناية واهتمام الضحية الإسرائيلية.

عمدت وسائل الإعلام الغربية والأجنبية كما الإسرائيلية إلى انتقاء الأحداث التي تتجاهل معاناة الضحية الفلسطينية والقصف الإسرائيلي للمستشفيات والمربعات السكنية والاستهداف المتعمد للمدنيين بهدف دفعهم إلى الهجرة القسرية، مقابل المبالغة في نقل الوقائع والأحداث في الجانب الإسرائيلي وصولًا إلى حد الكذب والتضليل.

الإعلام الإسرائيلي مجند حتى التضليل

على هذا النهج، قرعت وسائل الإعلام الإسرائيلية طبول الحرب على غزة منذ اللحظات الأولى لتكشف ملامح الهجوم المفاجئ الذي شنته حركة حماس على مستوطنات "غلاف غزة" وبلدات إسرائيلية في الجنوب، داعية إلى الانتقام للدم الإسرائيلي مهما كلّف الثمن، حيث لجأت إلى التهويل عندما يتعلق الأمر بالإسرائيليين والتستر والتكتم على ما يتعرض له الفلسطينيون.

تجند الإعلام الإسرائيلي طواعية للحرب على الفلسطينيين في قطاع غزة، حتى قبل إعلان حالة الطوارئ وفرض الرقابة العسكرية على المحتوى والمضامين والنشر وصياغة السردية، وحدد أهداف الحرب حتى قبل الإعلان عنها رسميا من قبل رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، تحت ذريعة "الحرب الوجودية" أو "حرب الاستقلال الثانية".

وبمعزل عن السجال الداخلي والنقاشات بشأن الفشل والإخفاق في منع أحداث 7 أكتوبر، وحتى في تباين المواقف بشأن إذا ما حققت الحرب الإسرائيلية أهدافها، توافقت السردية الإسرائيلية على القتل والقصف والتدمير ومخططات التهجير لسكان القطاع، بينما عمدت على التهويل والتخويف وترويع الإسرائيليين لتبرير استمرار دموية الحرب على القطاع.

هيمنة غريزة الانتقام

غابت مشاهد الموت في غزة عن الإعلام والصحف والشاشات الإسرائيلية، التي أصبحت ذراعًا دعائية للمؤسسة الأمنية والعسكرية مليئة بالشعبوية والوطنية وهناك من دعا من المحللين والمراسلين والسياسيين إلى إبادة غزة وتدميرها بالكامل وقصفها بقنبلة نووية، لاستعادة الردع وتوفير الأمن والأمان للإسرائيليين في الجنوب وتل أبيب الكبرى، والبعض انتقد الجيش الإسرائيلي لامتناعه عن قتل 100 ألف فلسطيني بالغارة الأولى على القطاع.

عكست هذه التصريحات التي هيمنت على الخطاب العام مشاعر وغريزة الانتقام للإسرائيليين، إذا دأبت وسائل الإعلام الإسرائيلية، ومن أجل مواصلة تغذية غريزة الانتقام في نقل المعلومات المغلوطة والتضليل حدَّ الكذب، خاصة بكل ما يتعلق بالضحايا والقتلى والمختطفين الإسرائيليين المتواجدين بالأسر لدى حماس.

أمعن الإعلام الإسرائيلي في تجاهل مقتل وإصابة عشرات الآلاف من العائلات الفلسطينية في غزة جراء القصف المدفعي والغارات الجوي الإسرائيلي، ونأى بنفسه عن توثيق مشاهد المباني والأحياء السكنية المدمرة ومخيمات النزوح، دون ذكر لرائحة الموت وإمكانية دفن الناس تحت الأنقاض وركام المربعات السكنية المدمرة.

 سقطات الإعلام الغربي

أمام مشاهد الموت في القطاع، تعاطت وسائل الإعلام الأجنبية والعالمية مع هذه الحرب وتطوراتها، بازدواجية المعايير في تسليط الضوء على معاناة الفلسطينيين في غزة، بالمقارنة مع معالجة حرب روسيا أوكرانيا، بدا التحيز واضحا للجانب الإسرائيلي لدرجة أحادية في السردية.

وعلى نهج الإعلام الإسرائيلي، جندت وسائل هذا الإعلام الأجنبي قدراتها لنقل سردية الرواية الإسرائيلية حتى دون التحقق من المعلومات بل حتى المبالغة في مضمون السردية، مقابل تقزيم يصلُ إلى حد درجة تغييب الرواية الفلسطينية والتشكيك في مصداقية مشاهد الموت والدمار وأعداد الضحايا والجرحى.

من الصعب تجاهل الانحياز الأعمى لإسرائيل والسقطات الأخلاقية للإعلام الأجنبي والغربي في خرق أخلاقيات مهنة الصحافة حتى في التعاطي وتناول الضحايا من الجانبيين، وكأن قيمة الإنسان الإسرائيلي أعلى من قيمة الإنسان الفلسطيني، وهو ما يعكس قضية التفوق العرقي في الإعلام الغربي الذي يتمادى في ترديد النغمة الإسرائيلية.

ومع هذا الانحياز الأعمى، دأبت إسرائيل في التحكم والسيطرة على سردية الصراع مع الفلسطينيين تحديدا خلال الحرب، عبر التأثير على المضامين والمحتوى والسردية في الإعلام الغربي والأجنبي منذ بداية معركة "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لدرجة أن كثيرًا من الصحافة الأجنبية وقعت في فخ التضليل والمعلومات الكاذبة.

دموية شاشات الفضائيات العربية

لا تقل أهمية المعركة الإعلامية عن المعركة العسكرية في التأثير على سير الحرب، وتأطير مشاهد المعارك والقتال وواقع الدمار والموت الذي يعيشه السكان الفلسطينيون في القطاع، ومواجهة آلة الحرب الإسرائيلية وما رافقها من أساليب خداع وتضليل ورقابة وطمس الحقيقة. 

في حرب إسرائيل على الرواية الفلسطينية أدت الفضائيات العربية دورا بارزا ومؤثرا خلال العدوان الإسرائيلي على غزة وإن كان بتفاوت، وكل محطة بما يتناسب ورؤية كل فضائية وسياساتها في دعم ومساندة القضية الفلسطينية، وتسليط الضوء على معاناة الفلسطينيين بالقطاع وانتهاكات الجيش الإسرائيلي بحق المدنيين.

لكسب التعاطف وحشد الجماهير نصرة لغزة، بدت شاشات الفضائيات العربية دموية تؤطّر مشاهد الدمار وجثث الشهداء والمقابر الجماعية، ليعيش المواطن في العالمين العربي والإسلامي معاناة الحرب وويلاتها، في مشاهد تباينت الآراء في مدى تأثيرها نفسيًا سواء على المتلقي أو حتى الصحافي والمذيع والعاملين في غرف الأخبار.

أثّرت مشاهد القتل الدموية التي سببتها آلية الحرب الإسرائيلية نفسيا على استهلاكها من قبل الجمهور، وباتت هذه المشاهد ومع استمرار الحرب وهول ما اقترفته آلية الحرب الإسرائيلية، لا تتعدى كونها مجرد أرقام وإحصاء جديد للشهداء والجرحى والدمار، بل تركت حالة من الاكتئاب لدى الجمهور المتلقي الذي بات يعيش تبلد المشاعر، رغم الإجماع المندد بالعدوان الإسرائيلي والمناصر لغزة والداعم لصمود الشعب الفلسطيني.


تصوير: هاني الشاعر.

محمد محسن وتد

صحفي وباحث ميداني ومحرر في موقع عرب 48 في حيفا. صحفي ميداني في موقع الجزيرة نت لقضايا عرب 48 والقدس والشأن الإسرائيلي

شاركونا رأيكن.م