الصحافة الثقافية وزمن الإبادة… في تجربة "رمان الثقافية"
لا يمكن لأي عامل في الصحافة الثقافية إلا أن يجد نفسه أمام سؤال لا إجابة سهلة ومباشرة عنه: هل من جدوى للثقافة ولصحافتها في زمن الإبادة؟ سأحاول هنا تقديم إجابة من خلال تجارب "رمان الثقافية"، المجلة الفلسطينية التي أحررها، في زمن صحافي صعب للتخصصات الثقافية.
المجلة الثقافية الفلسطينية، انحسر فيها أخيراً منسوب "ثقافية" وامتد منسوب "فلسطينية"، وذلك طبيعي لمبدأ أول في المجلة هو التحام الثقافي بالسياسي، فلا ثقافة جادة من دون وعي سياسي ولا سياسة جادة من دون وعي ثقافي.
كرست المجلة موادها منذ عملية "طوفان الأقصى" لقطاع غزة وكل فلسطين في مواضيعها، قليلة جداً هي المواد التي نشرتها خارج الموضوع الغزّي، وإن بقيت دائماً ضمن مجالنا وهو المادة الثقافية الملتحمة بالسياسة فلسطينياً وعربياً. لكن، قبلها، وللبدء بالحديث عن هذه التغطية، توقفت عن النشر لأيام منذ العملية. نوع من الانبهار والقلق والمباغتة والخوف على أهلنا في القطاع، جعلني أوقف عملية النشر لخمسة أيام قبل أن أستأنفها بمقالة قصيرة لي بعنوان "نواحٌ إباحيّ أبيض" أنتقد فيها نظرة الرخص تجاه الإنسان الفلسطيني لدى العالم الغربي، حكومات ومؤسسات وأحزاب وصحافة، لأستأنف من بعدها النشر بالوتيرة المعتادة، شبه اليومية.
أنشر عن القطاع ومأساته، وما أزال حتى اليوم، مع إدراك تام لصعوبة الإجابة عن سؤال جدوى الصحافة الثقافية في زمن الإبادة، وأنا أحكي عن الثقافية تحديداً، فلغيرها ضرورة قصوى، في القضايا السياسية والحقوقية والإنسانية والاقتصادية التي يمكن أن تؤثر على قرارات دولية يمكن أن تخفف من وطأة الإبادة أو توقفها. لا أرى طبعاً لاجدوى في الصحافة الثقافية في زمن الإبادة، لكنها غير ملامسة للمأساة الغزية كغيرها، والحديث عنها فلسطينياً سيعتبر رفاهية، نعرف أن أحداثاً ثقافية فلسطينية توقفت وأن إنتاجات وإصدارات وغيرها لم ترَ النور، فلا الوقت مناسب لها ولا الحالة النفسية.
سُئلت في بدايات الحرب في مقابلة عن السينما الفلسطينية، فيما يمكن أن تفعله السينما اليوم. قلت بحزم، لا شيء، لا السينما ولا الفنون في عمومها، فمن منا يقدر على حمل كتاب ليقرأه أو انتقاء فيلم ليشاهده، كلنا مسمّرون أمام شاشات الأخبار. وقلت كذلك -وهو ما أجده صالحاً في الحديث عن الصحافة الثقافية- إن عمل الفنون تراكمي وليس فورياً، لها أهمية كبرى لكن في مرحلة "الما بعد" وليس في زمن الإبادة.
أوقفت النشر إذن لأيام لإدراك بأن لا كلام يقال من بعد ما رأيناه، ثم عدت للنشر لكن مع تركيز على المنسوب السياسي وإن كان خارج جوانب ثقافية محددة. مثلاً، صفحة "آراء" في المجلة، كانت شبه نائمة قبل أن تنهض وتحتوي معظم ما نشرته في الأشهر الأربعة الأخيرة. الصفحة مخصصة للمادة السياسية في موضوعها لا في المقاربة، فالمادة الفكرية مثلاً وبمقاربة سياسية أنشرها في صفحة "أفكار"، وكذلك مع "آداب" و"أفلام" وغيرها. كثرت المواد السياسية وجميعها عن غزة. وكذلك كثرت النصوص الأدبية، وهذه كانت دائماً أقل نشاطاً من غيرها، فنشرت أخيراً العديد من النصوص وجميعها كانت لفلسطينيين ومعظمها لغزيين كتبوا نصوصهم من بطن الإبادة أو من مكان لجوئهم. وهذه النصوص الموجعة الحارقة للقلوب، من أصدق ما نشرت في السنوات القليلة من عمر المجلة.
أستطيع القول إن معدل النشر زاد في الشهرين الأخيرين، لكثرة ما يصل عن غزة أو لكثرة المواضيع الضروري طرحها، ودائماً حول غزة، نشرت العديد من الترجمات، بحثت وكذلك المترجم الرئيسي في المجلة عن نصوص دائماً، لكتّاب معروفين من العالم طرحوا مواقفهم المؤيدة لفلسطين والقطاع، ترجمنا جزءاً من ملف "من النهر إلى البحر" الذي نشرته تباعاً منشورات "فيرسو". باختصار، نكبة الفلسطينيين وألمهم لما تتعرض له غزة، كانت محوراً جوهرياً وشبه وحيد للمجلة، هل من جدوى لذلك؟ نعم لكن بالتراكم.
الثقافة ضرورة وليست رفاهية، في حالة السلم لا الحرب طبعاً. هي ضرورية في المساهمة بتشكيل وعي أجده ضرورياً في الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. صحيح أن أحداً لا يقدر على قراءة رواية في زمن يتعرض أهله فيها للإبادة، وبدلاً منها يقرأ الأخبار العاجلة، لكن الثقافة، صحافة وأعمالاً، ضرورية حتى لحظة بدء فعل الإبادة ومن لحظة إنهائه، في إعلاء صوت الناجين، وفي توسيع المساحات لفنون المضطهَدين والمستعمَرين، صحافياً، التي يبدعها هؤلاء وأهلهم وأنصارهم، الثقافة هنا نوع من المقاومة هي جوهرية. مع الفروق في الحالات، سأطرح مثالاً بسيطاً هنا، السكان الأصليون في القارة الأمريكية، ما الذي يخطر في بالنا عنهم قبل غيره سوى موسيقاهم ورقصاتهم؟
لدى المجلة تجربة في القمع كانت حصتها كالكثيرين في العالم خلال الأشهر الأخيرة، ففي مقالة تناولت خطابات المقاومة، في دراسة جادة لمضامينها، أرفقتُ معها صورة للملثّم كما نجدها على الشاشات، تم حذف الصورة من "فيسبوك" وإنستغرام" المجلة، وتم تقييد صفحة المجلة على فيسبوك، وصفحتي الشخصية كذلك، ما بقي تأثيره حتى اليوم من بعد ما يقارب شهرين من حينها. كان يمكنني تغيير الصورة ومعها العنوان ومفردات بعينها لكني لم أفعل لأن الحرية التحريرية التي أمارسها في النشر لن أتخلى عنها من أجل انتشار أوسع على هذه المنصات، وهذا موضوع آخر لي رأي فيه، فإني أرى في التأثير التدريجي لهذه المنصات على الشكل والمضمون الصحافيين في العالم أمر بائس.
هنالك جدوى في العمل الثقافي لا في زمن الإبادة، فأي إنتاج، أو إصدار، أو حدث فني، أو سينمائي، أو أدبي فلسطيني اليوم سيكون معيباً ما لم يتعلق بالإبادة، لكن الإبقاء على الجاهزية لهذا العمل، في تكثيفه بدءاً من وقف الاحتلال حربه الإبادية بشكلها الراهن، هو الضروري، وإلى حينه، فليكرس العاملون في الثقافة خبراتهم ومعارفهم في ما يخدم بشكل حقيقي وفوري الأهالي في القطاع. هذا ما حاولنا ونحاول فعله في "رمان الثقافية" التي سعت وتسعى دائماً إلى التخصص ثقافياً، وهو ما نحّيناه جانباً منذ "طوفان الأقصى"، ونأمل أن نرجع له قريباً، بكلام أَولى، أن تنتهي حرب الإبادة قريباً.