"شِدّو بعضكو..." - الحصانة النفسية للفلسطينيين ووسائل التواصل الاجتماعيّ

على يوتيوب تلمِسُ مشاعرَنا سيّدة فلسطينيّة مُسنّة، الحاجّة حليمة الكسواني، لاجئة في أحد مخيمات  الأردن، تُنشد بصوتٍ جرحَه الألم دون أن يسلبَه صفاءَه الإنسانيَ العميق. "شِدّو بعضكم"، تُهيب بأهل فلسطين الذين  هجرتْهم فلسطين  دونَ وداع:  "رحلَت فلسطين ما ودعّتكم".

في الشَّطرين تكثيفٌ لفكرة تحرّرية إنسانيّة يتجاور فيها الألم و الهجران و العزاء و الصّمود الذي يوفِّرُه التكاتُف و التعاُضد، و يذوب التناقض بين المعاناة و المقاومة. ثمّة اعتراف بالألم و بالفقدان الملتبَس الذي يستحيل معه الحداد: "ما ودَعتْكم، رحلت فلسطين ما ودَعَتكم". النّكبة المستمرّة، التي ربّما كانت الحرب على غزّة من أشدّ فصولها كابوسيّةً، هي فقدان جماعيّ لا منتهِ و غير مكتمل. و رغم ما يواجهه الفلسطينيون أفراداً و  جماعةً منذ عقود من واقع صدميّ شديد الألم و التعقيد و طافح  بالموت الجماعي العنيف و بالفقدانات و الخسارات و التهديدات الوجوديّة، فإنّ ما يعيشونه في الواقع و عبر الشاشات هذه الأيام هو تصعيد لشرٍّ صدميّ  يزعزع حواّسهم و مشاعرَهم و ثقتَهم بعدلٍ  إنسانيّ  يكيل بمكيالين و يشيح بنظره عن الحياة الفلسطينيّة و يتركها  تموت و تهان و  تُمْحى، و يضعهم أمام مهمة شاقّة جدّاً: أن يفتحوا أعينهم و أن يظلوا أحياء و  في كامل  إنسانيتهم  أمام كلّ هذا التمويت و التجويع و التدمير المتواصل المنقول إليهم في بثّ حيّ و مباشِر. ومفجِع.

لكن إذا ما كان هناك من أملٍ فهو يبزغ حتماً من العناق الاجتماعيّ، الرقميّ أيضاً، بين اجزاء الجسد الفلسطينيّ المعذّب و المقاوم،  عناق يدعو إليه اللاجئة الفلسطينيّة في نداء يتراوح بين الترتيلة و التهليلة و الأغنية الوطنيّة. لاحقاً إنضمّ افتراضيّاً إلى الغناء فتى فلسطينيّ من الجيل الرابع للنكبة مُطَمْئِناً الجيل الأوّل للنكبة: "يا ستيّ إيدينا واحدة"، فاشتعل النشيد بنار عاطفيّة و أخلاقيّة عابرة للأجيال و للحدود و للجدران العازلة، ثمّ، كما في قدرٍ فلسطينيّ متكرّر، تعمّد  المعنى بالدم و الكلام بالفجيعة مع استشهاد والد الطفل المغنّي زين دقّة، المصوّر الصحفي في قناة "الجزيرة" سامر دقّة، خلال تغطيته للحرب على غزّة.

يصلح هذا الغناء الفلسطينيّ الحزين نشيداً لحصانة نفسيّة  قِوامُها التلاحُم و التكافُل الاجتماعي و احياء طقوس الحداد و الحياة و صناعة المعنى كما تتجلّى أيضاً في الساحات الافتراضية التي يلجأ إليها الفلسطينيون زمن الحرب على غزّة.  كما ويُضيء، باعتباره فِعلاً رقميّاً  مؤثّراً،  جانباً  هامّاً من مسـألة العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي و الحصانة النفسية.

فلسطينياً لا تكتسب هذه المسألة المسألة أهميّتها من الحرب الوحشيّة على غزة فحسب، و إنّما من التجربة التاريخيّة للفلسطينيين على اختلاف مواقعهم و حراكاتهم الوجوديّة و النضاليّة على امتداد الخارطة الاستعماريّة، حيث ينشطون رقمياً منذ سنوات في لمّ شمل شعبهم و في كتابة روايته و نشرها و تكريسها و في الاحتفاء الدائم و المتعدّد يالذاكرة و الهويّة و الأمل. إذ لم يتأخّر الفلسطينيّون في وطنهم  كما في الشتات في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في مقاومة مشروع التغييب و المحو الاستعماريّ في مستوياته الفعليّة و الرمزيّة، أي تغليب البقاء على الإماتة، و الكلام على الصّمت،  و الحقيقة على الكذب، و الحقّ على القوّة،  التآزر  على التفريق و التمزيق، و توسيع مساحات و إمكانات الحصانة النفسية على حساب مساحات الصّدمة و اليأس.

تشير الأبحاث المتوفّرة، على قلّتها، إلى الدّور الهامّ  الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعيّ في صياغة و هندسة الطُرق التي يُدرك فيها الناس حصانتهم النفسيّة الفرديّة والمجتمعيّة، وفي تحسين قدرتهم على التعامل مع التحديات الراهنة والمستقبليّة.

يُعْنى بالحصانة النفسيّة هنا القدرة الفرديّة و الجمعيّة على النهوض و البناء من جديد و  استشراف المستقبل و الحفاظ على الكرامة الإنسانيّة في مواجهة الأزمات و الكوارث،  في حين تُعرّف الصّدمة النفسيّة كحالة من العجز و الخوف و المهانة و الإقامة الجبريّة المؤلمة في الماضي.

لوسائل التواصل الاجتماعيّ  خصائص  تزيد من فاعليّتها فيما يتعلق بتعزيز تجارب الحصانة أو الصّدمة: الجماعيّة، والإتصاليّة العالية، والإنكشافية والتشاركيّة و الشفافيّة. تساهم وسائل التواصل بخصائصها هذه، و بالرغم ما يحكمُها من توجّهات و مصالح أصحابِها، في تفعيل و تنظيم طرق مواجهة  للأزمات و الكوارث،  كتقليص حالة اللايقينيّة و تطوير التعامل معها من خلال متابعة الأخبار و جمع المعلومات،  تمكين الحداد الفرديّ والجمعيّ على الفقدانات المختلفة، وصياغة المعنى وتحفيز الاستمراريّة و  الرغبة الفرديّة و الجماعيّة في الحياة.

يتقاسم الفلسطينيون آلامهم و مخاوفهم و غضبهم  على مواقع التواصل الاجتماعي، و يتشاركون في تطوير استراتيجيّات حصانتهم و مقاومتهم  لممارسات الظّلم و  اللّا – أنسَنة و الترهيب و تشويه الحقائق و السطوة المعرفيّة ولخطاب الإبادة والتهجير و كسر الإرادة. و يستعينون بهذه المواقع لتبادل  المساعدة و المساندة النفسيّة و الاجتماعية و المهنيّة والمعرفيّة. وكذلك يحشدون من خلالها لبناء "مجتمع أخلاقيّ" عابر للقوميّات يقف إلى جانب الشعب الفلسطينيّ و ينتصر لحقّه ويدافع عن حريّته، و يتصدّون للخطاب الاستعماريّ العنصريّ  الذي يجتاح الفضاء الرقميّ و  يجنّده و يلوثّه و يسيّره وفقاً  لأجنداته المعادية للحق الفلسطينيّ.

في حالة الفلسطينيين في الداخل يبرز الإسكات الرقميّ كشاهد على تغوّل شرطة الأفكار و المشاعر الاسرائيليّة في تجريم الحزن والغضب و الموقف الرافض للحرب. لكن تبرز، في المقابل، ممارسات تلتقط أيضاً نداء اللاجئة الفلسطينيّة: "شِدّو بعضكو..."  وتطلقه بطرق إبداعيّة  كمشروع حصانة نفسية مجتمعيّة لا بدّ من ترجمته إلى مشروع سياسيّ و الارتقاء به إلى مرتبة الأولويات الوجوديّة.


تصوير: هاني الشاعر.

د. مصطفى قصقصي

اختصاصيّ نفسيّ عياديّ ومعالج نفسيّ ومؤسِّس مشارِك و رئيس سابق لرابطة السّيكولوجيّين العرب

شاركونا رأيكن.م