صمت متأجج وغزة في صدري

مثلما تنوعت، تطورت وازدادت دقة ووحشية الأسلحة، معدات الحرب، أساليب القتال، المراقبة، الأجهزة، الكاميرات والماكينات الأمنية، روبوتات التفتيش وروبوتات التفجر وروبوتات التفتش في مواقع التواصل، ووراء كل هذا أدمغة مُخطِطَة ومشغِلة.

قوات مرتزقة متعددة الجنسيات، شركات مقاولين لتجنيد "عمّال جيش" مقابل معاش شهريّ، وقصف أهداف من خلال الذكاء الاصطناعي، كذلك تنوعت وفاضت بكثافةٍ وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ووسائل وبرامج الاتصال، بأجهزتها، وتقنياتها ومشغليها وطواقمها.

جهاز خليوي صغير ذكي، يحمله طفل صغير وذكي، يتجول بين الحطام الدمار، في حارته التي محيت آثارها، يحكي أنه يبحث عن وسيلة لشحن هاتفه، فتيار الكهرباء مقطوع من القصف الذي لم يتوقف، كما لم ينقطع "صوت طائرة الزنانة" المزعج، يطلب الطفل مُشاركًا إيّانا أمنياته الصادقة أن يتوقف هذا الصوت المستمر طيلة شهور.

 الطفل "الصحافي" يريد أن يبقى بتواصل معنا نحن متصفحي الإنستغرام، يريد أن يشحن الهاتف، فيتجول باحثًا عن وسيلة طاقة تشحن الهاتف ومعنوياته..  نبحث معه، هذا الصحفي الصغير ذو العيون المبتسمة يريد التواصل مع الكون من داخل غزة المحاصرة برًّا بحرًا وجوًّا، يريد أن يحكي لكلّ الكون عن معاناته، هذا الكون الذي اخترع الهاتف والتلفاز وأدوات الحرب التي تقصف وطنه بأكثر أجهزة عسكرية تطوّرًا، بارجات وسفن عسكرية، وآلاف الجنود والدبابات.

هذا الطفل "الصحافيّ" المستقل، أصبح صديقنا الذي نستيقظ لنطمئن عليه أنه بخير بعد ليلة معارك دامية، وسْطَ انقطاع تيار الكهرباء والإنترنت.

يطلّ مبتسمًا يخاطبنا "عدنا إليكم من جديد "نتنفس الصعداء!

أطفال، شباب وصبايا آخرون يطلّون علينا من قلب الحدث يحكون بكلمات بسيطة، بشكل شخصي، مشاعرهم نسمع أمورهم الصعبة، الحياة غير الممكنة تحت القصف المتواصل، النزوح، فقدان البيت، الخيمة، المطر، البرد، الجوع والإذلال، كلّ هذا مع ابتساماتهم التي تطلّ علينا لتمنحنا الأمل والتفاؤل، فنحبهم أكثر ونخاف عليهم أكثر!

تنهال القنابل والصواريخ دون توقف، وتنهال بعدها الصور والفيديوهات للموت بالبثّ المباشر عبر الفضائيات وصور الشهداء ولحظات الوداع الموجعة "لروح الروح"…

القصص الشخصية، العيون، الجدائل والأسماء، دم كثير يسيل في وطننا وعلى الشاشات، ونحن صامتون نتصفح من موقع إلى موقع.. بصمت متأجّج بالحزن والقهر.

نعوض عجزنا ومنعنا من الاحتجاج علنًا عما يحدث بمداومتنا المهووسة على الفيديوهات الإخبارية، ومستجدات الحرب المنهمرة علينا من كلّ حدٍّ وصوب دون رقابة، وتنهمر الدموع لتحجب الشاشة!

غريزة الأمومة مستفزةٌ داخلي..

صمت تأجج في قلبي تفجّره صرخة أم غزية شابة: "وحياتك وحياتك يا دكتور عيِّش لي ابني... يا رب ما توخدهش مني".

تحضنه بقوة تشتمّ رائحتَه، تقبّله، تمسح جبينه وترفض الاستيعاب أنه لن يبادلها منذ اليوم الدفء والضحكة التي كان هو مصدرها في حياة ليست حياة حتى قبل الحرب وخلال الحرب.. عذرًا "العدوان"، 

وهنا تأتي حرب التسميات والمفردات والمصطلحات في الحرب، نسمعها ونكتشف من خلالها لمن تتبع الصحفية أو الصحفي، بصرْف النّظر عن هوية اللغة وانتماء الوسيلة الإعلامية قومياً، على سبيل المثال: "شهيد، قتيل"، "منفذ عملية، مخرّب"، "مقاوم، إرهابي"، "الجيش الإسرائيلي، جيش الاحتلال"، "مخطوفون، أسرى حرب، محتجزون".. ونضيع في التسميات.

استمع لمحطات الإسرائيلية باللغة العبرية، ولا أتمكن من إتمام مشاهدة، استماع أيّ برنامج!

فالمذيعون والمحللون تجندوا في جبهة حرب الأستوديو الإخباري، وهم الآن في جيش الاحتياط بدون ملابس عسكرية وسلاح.. عذراً: "هم أيضاً مع مسدس في الخاصرة وراء طاولة تقديم الأخبار".

وبينما تبث الإذاعات الإسرائيلية ومواقع التواصل دون رقابة أغاني تشرعن الإبادة وتتفاخر بأسماء وحدات العسكر، تبدّل كلمات أغانٍ عربية مرتبطة بهويّة الشعب الفلسطيني، فمن أغنية "انا دمي فلسطيني" إلى كلمات عبرية "يسرائيل هي أدمتي – (إسرائيل هي أرضي)" بنفس اللّحن والتوزيع.. جوقة النصر المكونة من أطفال تغني في التلفزيون الإسرائيلي الرسمي "خلال عام سنقضي عليهم جميعاً" في النسخة الجديدة من "أغنية الصداقة" (שיר הרעות) فرقة نيس وستيلا بتوزيع إلكتروني صاخب عنيف بكلمات “حربو ضربو" (Harbo Darbo) تحتوي على أسماء الوحدات العسكرية تدعو إلى القتل والتدمير وأكثر.. فضلًا عن إيحاءات جنسية عنيفة وجملة لازمة "كل كلب بجي يومه".  "تفي يا بني عماليق" تتخطى 17 مليون مشاهدة على يوتيوب تنتشر بكل مواقع التواصل الإسرائيلية دون أيّ رادع.

"أغانٍ" تتفجر بمعاني الكراهية، إلغاء وجود الفلسطيني، وتهديدات صريحة واضحة ومُعلنة بالقتل والمحو والتدمير، أغانٍ كانت ممنوعة من البثّ في الإعلام الإسرائيلي في الثمانينات أصبحت اليوم أغاني رسمية، أغانٍ خضعت سابقًا لرقابة ونقاش باتت أغاني وأهازيج العدوان على الغزيين، مكرسة للانتقام والعنصرية.

‎ينجرف الشباب اليهوديّ إلى تيار غامض من العنصرية التي تخدم السياسيين العنصريين والقوميين الموجودين في السلطة، ويجري التعتيم على كلّ من يتلفّظ بجملة احتجاجية ضد العدوان أو تصريح يمنح شرعية لوجود الطرف الآخر، مُرفقًا بتعتيم على أيّ خبر حول رافضي الخدمة بجيش الاحتلال، وتعتيم على عائلات محتجزين في غزة الذين يطلقون دعوات للسلام ووقف الاحتلال وإجراء صفقات التبادل.  

فيديو في وسائل التواصل حيث يلتقط أحد جنود الاحتلال جيتارًا خشبيًا من تحت أنقاض أحد البنايات التي قصفت بالصواريخ ويبدأ بالغناء باستهزاء، وبعدها ببضع أيام يصدر فنان عضو فرقة "صول" من غزة أن هذا الجيتار ملكيّته، وأنه حصل عليه من أبيه وهو الذكرى الوحيدة التي بقيت من البيت الذي هدمه قصف الطيران الكثيف، لتسجل بعدَها فرقة "صول" الغزيّة أغنية معبرة حزينة بين أنقاض بيت، أغنية "افتح عزا يا لساني"، وتنتهي بتعتيم الشاشة لحدوث انفجار.

كيف نكتب عن الإعلام والأداء الإعلاميّ في الحرب؟

كيف، وقد أصبح الصحافيون أهدافًا للقناصين هم وعائلاتهم؟ كيف، وقد تخطت أعدادُهم 122 صحافيًا شهيدًا، بينما كانوا يؤدّون مهماتهم الصحفية ويلبسون خوذة الصحفي ورداء الصحافة مكتوب عليه بالإنجليزية وظيفته، فلا داعي أن يعرف العربي أنّه صحفي تكفي كلمة press أملًا بأن تحميه من هوية مستهدِفي شعبه الذين لا يتكلمون لغته، وهذا لا يسعفه، هو الصحفي أيضًا في قائمة المعاقبين جماعيًا، يدفن ابنه وينهض، يدفن زوجته وينهض، يمسك الميكرفون بوجه متجمد التعابير يتابع البثّ، بينما للتو حضن حفيده مودعًا إياه قبل أن يغطيه الكفن وتبتلعه الأرض وكثافة الأخبار والأسماء والقنابل الفوسفورية، ينعى صديقه، عمه، خالته، وأعزّ أصدقائه، ينعى بيته، حديقته، حارته، ينعى ذكرياته و"تحويشة" العمر.

الإعلاميّ هو مقاوم يدفع ثمن التزامه لقضايا شعبه وبقائه متشبثًا بوطنه وحقّه بالعيش حرًا كريمًا.

المعيشة مهددة، الفصل من العمل، كمّ الأفواه، إلغاء شرعية لغتك في الأماكن العامة وفي غرف المستشفيات أو أماكن عمل أخرى، أغلبيّتها تتحدثُ لغة الأكثرية في الدولة. حتى أنَّ منشورًا أو صورةً، وموقفًا متعاطفًا مع أبناء شعبك أو ما تعكسه مبادئك وقيمك الإنسانية بات يهددك بالاعتقال. نمشي بين النقاط بكل ما نبثّ.

أستمدُّ المواد للبرنامج الثقافي الفني "أثير الأمل" من الينابيع من تاريخ الفن والأدب من رمزية المقطوعات الموسيقية والشعرية. أخترع التفاؤل باستضافة أطفال وأحلامهم في الأستوديو في الناصرة مع نهاية عام استشهد به آلافُ الأطفال الأبرياء، ونتحدث إلى ضيوف مخضرمين عن تجارب من سبقونا عاشوا المعاناة وأيام الحرب وصمدوا.

نتذكر أنه قبل اختراع الكاميرات والأجهزة التكنولوجية ووجود وظيفة الإعلام والإعلاميين كمهنة ومنبر للمعلومات قبل مئات السنين، حيث كان الرسم واللوحات وثيقة وخبرًا، وحيث كان للشعب حكمة تأليف الأغاني التي تنقل المعلومة السياسية التاريخية الاقتصادية والاجتماعية من خلال ترويدات الأمهات، مواويل الآباء، حلقات الدبكة وأغانيها، كذلك للفن والفنانين والكتاب والروائيين والشعراء، كان دورًا إعلاميًا هامًا.

الرسام الإسباني فرانشيسكو جويا، وظّفه الملك ليرسم ويوثق بطولات الجيش المحتل وقيادته، جويا الرسام الثائر استغل وظيفته فخرج إلى الميدان ورافق الجنود في المعارك بطلب الملك لتخليد بطولات الجنود، بينما بذكاء وتضامن مخفيّ وخلال تنفيذ الإعدام بحقّ ثوار انتفضوا ضد الاحتلال.  

أضاء چويا اللوحة وقسّمها على الجنود، فيما وُجّهت الأسلحة نحو صدور الثائرين من أجل حقوقهم في ميدان مونكلو أحد الميادين الذي شهد قسوة الاحتلال.   

هذه اللوحة التي أنجزت عام 1814 حملت اسم "الإعدام رميًا بالرصاص"، موجودة اليوم في متحف ديل برادو بمدريد، إلى جانبِ لوحات هادفة أخرى حاول تأريخ الاضطرابات السياسية الكبيرة التي شهدتها بلاده..   

مثل هذه اللوحة، عاشت وبقيت أغانينا الفلسطينية الشعبية خالدةً، قصائد وروايات كُتاب شعبنا، لوحات الفن التشكيلي شكّلت وثيقةً. منحت الحرب الأخيرة شعارها المنتشر عالميًا ثمرة البطيخ الأخضر الأحمر والأسود والأبيض رمزاً مخبئًا يحيي حقّ الشعب الذي مُنع منه أن يُعبر عن حلمه بالحرية والحياة والاستقلال.

رغم القيود، سيجد الشعب طريقة تشقّ الدرب الصعب مثلما تشق المياه الأرض وتتفجر ينابيعَ متجددة منطلقة بين الصخور والأودية فتصب وتمتزج بملح دموع بحر غزة.


الصورة: بعنوان "الإعدام رميًا بالرصاص" للرسام الإسباني فرانشيسكو جويا, من موقع ويكيبيديا.

أمل مرقس

فنانة فلسطينية

شاركونا رأيكن.م