اضطرابُ المعلومات حول الحرب الإسرائيلية على غزّة
في عصر الاتصال الرقمي أضحت الحروب الإعلامية جزءًا لا يتجزأ من النزاعات والحروب، بل أحياناً يعلو صخبها على صخب المعارك بين المقاتلين على الأرض، ورغم أن الحرب الإعلامية والنفسية ليست وليدة اللحظة، إلا أن ما أفرزته البيئة الرقمية للاتصال من تحولات في عملية الاتصال وعناصرها، وظهور منصات الإعلام الاجتماعي، أوجد أشكالاً واستراتيجيات حديثة ومتطورة من التضليل والتلاعب بالمعلومات، يسعى وراءها كل طرف من أطراف الصراع، والتي يكون لها تأثيرات كبيرة وبليغة على المجتمع وأفراده.
الحرب الإسرائيلية على غزة قدمت أمثلة حية وربما أشكالاً جديدة من التلاعب الجماعي بالمعلومات خلال الحروب لم يكن قد سبق أن تعرضنا لها كمدققين للمعلومات، والتي هدفت بشكل رئيسٍ إلى التلاعب بالرأي العام، وتشويش الرؤية لدى الجمهور، وإيجاد المبررات للعمليات العسكرية، وتشويه صورة "العدو"، وكان لافتًا شأن الاستفادة من المنصات الاجتماعية في تحقيق الانتشار الواسع والسريع لهذه المعلومات، واستغلال الحسابات الوهمية لهذه الغايات.
فيما شكّل استخدام الذكاء الصناعي تحولًا آخر في مسار التضليل الذي يصاحب الحروب والنزاعات، إذ تم استخدامه في مواقع مختلفة خلال الحرب على غزة لإنتاج محتوى مزيّف أو تحريف المحتوى الحقيقي، وكذلك التوليف الصوتيّ لإنشاء مقاطع صوتية مضللة يصعب التفريق بينها وبين الأصل، وتقنيات الرؤية الاصطناعية التي يمكن أن تُستخدم لتعديل الصور والفيديوهات بطرق تجعلها أكثر إقناعًا، مما يزيد من تأثير المعلومات المضللة بشكل معقد خلال الحروب.
منذ اللحظة الأولى لأحداث السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023، شهد الفضاء الرقمي تدفقًا كبيرًا للمعلومات المتعلقة بمجريات الأحداث وما أعقبها من حرب إسرائيلية على غزة، وقد تنوعت المعلومات ما بين معلومات خاطئة ناجمة عن حالة التفاعل العاطفي مع الأحداث، وذلك بربط فيديوهات وصور بشكل خاطئ بالأحداث التي شهدتها مستوطنات غلاف غزة، أو بالقصف الإسرائيلي والحرب البرية التي أعقبت ذلك.
الشكل الآخر من المعلومات التي تم التعرض لها كانت مضللة، وتهدف بشكل أساسي إلى تضليل الرأي العام، والتلاعب به بشكل واضح، خصوصًا الحملات التي شهدتها منصة "إكس" ومنها حملة "Pallwood" التي تداعى من خلالها نشطاء ومؤثرون مناصرون لإسرائيل إلى نشر المعلومات المضللة والادعاءات المختلفة التي تعزز الرواية الإسرائيلية تجاه أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين أول، وتشكل غطاءً للحرب الإسرائيلية.
وقد تعامل المرصد الفلسطيني "تحقق" منصة فلسطينية تعنى بتدقيق المعلومات والتربية الإعلامية مع 153 ادعاءً ارتبط بالحرب الإسرائيلية على غزة، منها 18% من ادعاءات مصدرها المنصات الأجنبية والإسرائيلية، وقد تم تصنيف هذه الادعاءات من قبل المرصد تحت ثلاثة عناوين رئيسة، الأول يتمثل بتعزيز الاتهامات للفصائل الفلسطينية في قطاع غزة بقتل وخطف الأطفال الرضّع والنساء من المستوطنين في غلاف غزة، دون الاستناد إلى أدلة واضحة، أو من خلال الاستعانة بفيديوهات غير صحيحة وربطها خطأً بأحداث السابع من أكتوبر/ تشرين أول، وكذلك الاستعانة بأدوات الذكاء الصناعي في توليد صور لهذه الغاية.
أما العنوان الثاني فتمثل بالتشكيك بالمعاناة الفلسطينية، عبر توظيف فيديوهات حقيقية من معاناة الفلسطينيين في غزة جراء القصف الإسرائيلي وفقدان أفراد من عائلتهم بفعل الحرب، من خلال توظيفها في سياق مضلل، واتهامهم بالتمثيل، واختلاق الأحداث ضمن وسم "Pallywood" الذي يتم التفاعل معه من قبل حسابات إسرائيلية وأجنبية بشكل كبير في منصات التواصل الاجتماعي، خصوصًا موقع "إكس".
والعنوان الثالث تمثل بإنكار الحقائق، خصوصاً من قبل الجهات الرسمية الإسرائيلية، ومنها إنكار إسرائيل مسؤوليتها عن مجزرة المستشفى المعمداني، عبر استخدام فيديوهات قديمة لإلصاق مسؤولية التفجير بالفصائل الفلسطينية، وكذلك إنكار استخدام جيش الاحتلال لمادة الفسفور الأبيض المحرمة دولياً في عمليات القصف الجوي لقطاع غزة.
وفيما يخص المحتوى العربي الذي تم التعامل معه وتصحيحه من قبل المرصد، فكان في غالبه توظيفًا خاطئًا لفيديوهات وصور ليس لها علاقة بالحرب الدائرة في غزة، خصوصًا الاستعانة بفيديوهات من ألعاب الفيديو، أو مقاطع من أفلام الإثارة والأكشن في إطار التفاعل مع قدرات المقاومة الفلسطينية وعملياتها الموثقة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، إلى جانب أخبار ملفقة بشأن مقتل ضباط وجنود إسرائيليين وأجانب خلال المعارك البرية.
في ضوء ما سبق، فإن الحرب الإسرائيلية على غزة شكلت مثالًا حيًّا على إضطراب المعلومات خلال النزاعات والحروب، وما يرافقه من فيض كبير للمعلومات المضللة والخاطئة والخاضعة للتشويه والتلاعب المتدفق عبر الشبكة، وما تحمله من تأثيرات كبيرة سواء في تشكيل الرواية ومصداقيتها، وتحقيق الأهداف السياسية من الحروب، وكذلك الاستخدام الفعّال لوسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل الرأي العام، وتشويش رؤية الجمهور حيال الوضع الفعلي وتعقيد فهم الأحداث.
كما لهذه المعلومات تأثير نفسيّ وعاطفيّ على الجمهور، سواء من خلال توجيه رسائل محفزة عاطفيًا أو عرض صور وقصص بهدف التأثير على المشاعر العامة.
ومن هنا يأتي دور منصات تدقيق المعلومات في التصدي للتضليل، ومعالجة كافة الآثار المترتبة عليه خلال الحروب، وهذا يجعل جهدها مضاعفًا نظرًا لكثافة المعلومات التي ترافقها، وصعوبة عمل مدققي المعلومات خلال الحروب، ففي حالة غزة تمثلت التحديات بصعوبة الوصول إلى المصادر الأولية نتيجة انقطاع الكهرباء والاتصالات في غزة، والمحاذير المترتبة على التحقق من ادعاءات متعلقة بأحزاب وحركات يصنفها الاحتلال بجهات "معادية"، وبالتالي قد يعرض ذلك مدققي المعلومات للملاحقة والاعتقال.
ختاماً، إنّ اضطراب المعلومات خلال النزاعات والحروب، يتطلب تكاتف الجهود وتوحيدها بين مدققي المعلومات ومنصات التحقق، والخروج من مربع المنافسة إلى مربع التعاون، وكذلك البحث في استراتيجيات جديدة لمواجهتها وآثرها، في مقدمتها تعزيز الوعي العام حول تحديات التضليل، والتأثيرات المرتبة عليه خلال الحروب، وكذلك تعزيز قدرة الفرد على التعامل النقدي مع المنصات الاجتماعية والمحتوى المتدفق عبرها وبالتالي التمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة.
بكر محمد عبد الحق
باحث في مجال التحقق، ومؤسس ومدير المرصد الفلسطيني لتدقيق المعلومات والتربية الإعلامية "تحقق"