النسوية والأخواتية وضحايا الجرائم الجنسية

عندما شاهدت فيلم "Promising young woman" الصّادر عام (2020) من كتابة وإخراج إميرالد فينيل وبطولة كاري موليچان، كان واضحًا لي أن هذا الفيلم – رغم قسوته –  إجباري لكل امرأة، وأم، وابنة، وصاحبة منصب، ومؤثرة، ومتخذة قرار. وهو دليل على أن المرأة التي تكتب عن قضايا النساء هي أكثر قربًا للواقع، فهو تجربة الحياة اليومية بالنسبة لها ولا تحتاج إلى الكثير من البحث لتقدم عملًا يدخل عمق نفوس النساء ويستخرج منهن كل ما لديهن من نقد لاذع للمنظومات المجتمعية.

يحكي هذا الفيلم قصة نيناـ الطالبة التي تخرج للمشاركة في إحدى حفلات الطلاب وتتعرض للاغتصاب على يد زميلها في الصف. هذا الشاب الذي يكبر ليكون فيما بعد طبيبًا بارزًا هو – كما في الكثير من هذه الأفلام- ابن لعائلة ثرية ومؤثرة. نظرًا لحيثيات الحادثة، ولعدم قدرة نينا على التعاطي مع ما تعرضت له وتعامل المجتمع مع قضيتها، وعدم قدرة عائلتها على التعامل مع الجريمة والسعي لمقاضاة الفاعل، تقوم بالانتحار. يدفع انتحار نينا إلى جعل صديقتها المقربة كيسي تكرّس حياتها لمعاقبة كل المعتدين الفعليين، بالإضافة إلى المعتدين المحتملين، والمؤسسة الرسمية والمجتمع وعلى رأسهم جميعًا- المُغتصب.

تعمل كيسي كنادلة في مقهى بسيط، تعيش في بيت والديها، وتخرج للسهر في نهاية كل أسبوع، هناك تدعّي الثمالة وتجعل من نفسها فريسة للكثيرين، وما أن يحاول أحدهم الاعتداء عليها مستغلًا ثمالتها، حتى تستفيق من ادعائها وتقوم بقتله، يسبق ذلك تعذيبًا نفسيًا وجسديًا ودرسًا في احترام النساء!

هكذا تتحوّل كيسي إلى قاتلة تستخدم الإغواء للإيقاع بمن يستغلون النساء، أو ممن يضعون سموم الاغتصاب في كؤوس الشابات – كما حصل مع نينا.

قد يكون قرار كيسي وانتقامها خطيرًا إذا ما خشينا أن تقلدها نساء أخريات في هذا العالم، لكن الفيلم بذكائه ورؤيته يجعلنا كمشاهدين نتفهم ما تفعل، ونتعاطى مع قرارها بالكثير من التعاطف، ويخلق لدينا شعورًا بالغضب من سهولة ارتكاب الجرائم الجنسية ومن ممارسات يجد لها المجتمع مبررات، ويخلق لمرتكبيها منافذ قانونية واجتماعية جاعلة الضحايا تستعيد الألم أمام كل حاجز ترتطم به.

لا تضحي كيسي بالنساء المتخاذلات، ولا تخلق ضحايا جددًا من الفتيات الصغيرات الجاهلات اللاتي قد يسهل الإيقاع بهن، لكنها – وبحكمة السيناريو الجميل المتقن- تعلّمنا دروسًا في النسوية والأخواتية والوحدة والتكاتف لجعل النساء جميعًا يتمتَّعن بالكرامة والحياة. ففي مقطع مُلهم حقًا تستدرج كيسي ابنة عميدة الطلبة وتوهمها بأن فريقها الغنائي المفضل يتدرب في أحد الفنادق، تجد الفتاة المراهقة نفسها حبيسة في غرفة فندق، وحيدة بلا هاتف وبلا فرقة موسيقية، فيما تجلس كيسي مع والدتها العميدة، تذكرها وتعاتبها وتحاسبها على ما لم تفعل لإنقاذ حياة نينا والتحقيق في القضية ومعاقبة الجناة، وتراها وهي تتألم حينما تقول لها إن ابنتها المراهقة تجلس الآن في غرفة فندق برفقة أعضاء فرقة موسيقية من الرجال تعيش تجربة تشبه تجربة نينا. في نظرات هذه الأم ودموعها نرى دموع نينا وتوسلاتها، نسمع نداءات استنجادها، وتسقط كل المبررات وكل اللامبالاة ويضيء جهاز إنذار صاخب في وجه كل امرأة : نصدّق الناجيات وننتصر للضحايا!

في تفاصيل الفيلم وأحداثه وحواراته، وفي مسار بطلته عبرة تجعل منه تحفة نسوية وإنسانية تعكس قسوة الحياة حتى في أكثر المجتمعات انفتاحًا وتحررًا. سأنغص متعة المشاهدة وأكتب أن كيسي تموت على يد المغتصب الذي قضت سنوات من حياتها في ملاحقته لمعاقبته. لكن موتها هو جزء من الواقع الذي يحاول الفيلم أن يقدمه لنا، هذا الواقع الذي تضحي النساء بالنساء ليستمر الرجال في التمتع بالمنصب والرفاهية والثراء والعلم، وليس المقصود هو الرجل كإنسان ذكر فقط، بل الرجل كمؤسسة ذكورية، كخطاب مجتمعي سائد، وكفكر مهيمن لا يرى في الاعتداءات الجنسية خطورة عظيمة، ويحصر التعاطي مع القضية في تفاصيل تهمّش الأذى الهائل الذي تتعرض له الضحايا، يعالج الكارثة بخلق كارثة أخرى على صورة انتقام لا حدود له، فتتكبد الضحايا والمُناصرات خسارات لا يملأ الفراغ النفسي والعاطفي الناتج عنها أي تعويضات.

يخلق هذا الفيلم نقاشًا مهمًا حول الردع، فتكرار محاولات استغلال فتاة واقعة في ضيق –أيًا كان سببه- من قبل رجال مختلفي الثقافات والأعراق والأجيال مردّه انعدام الرادع الأخلاقيّ من جهة والقانونيّ والمجتمعيّ من جهة أخرى. فلو كان المجتمع ذا جهوزية لنبذ المتحرّش والمغتصب أخلاقيًا وقيميًا، لنتجت عن ذلك أرض خصبة لسن قوانين جديّة للعقاب والحساب.

إن ما تحاول شخصية كيسي القيام به في هذا الفيلم هو بحث معمّق حول انعدام هذه الأخلاقيات، وحول ذوبان المأساة الإنسانية وتحويلها لقضية شخصية، حول الإنهاك الذي يصيب عائلات الضحايا، والصراع الطبقي الذي تتفوّق فيه المناصب والمال على الأخلاق. فرؤية العميدة وهي تتذرع بتشخيص الضحية كطالبة غير مستقرة نفسيًا، أو الادعاء بأن النظام الإداري في الجامعة لا يترك مجالًا لتماهي النساء مع بعضهن، أو رؤية والدة المغتصب وهي ترى الخطر يهدد ابنها دون أي اكتراث بالخطر الذي ألحقه هذا الابن بإنسان آخر دفعه إلى الانتحار. هذه الأنانية التي تتسم بها المجتمعات وتتجلى على شكل حجج واهية كإبعاد الفضائح عن مؤسسة أكاديمية مرموقة، أو الحرص على سمعة عائلة ثرية، أو مستقبل طبيب شاب وناجح، كلها تؤدّي – وفق تسلسل أحداث الفيلم – إلى إنتاج جناة جدد طوال الوقت.

أتماهى كثيرًا مع شخصية كيسي ومواقفها وقراراتها، فاختيارها مناصرة الضحية وإحقاق الحق وحماية نساء أخريات يحولها إلى ضحية. إن اختيار كاتب العمل والمخرج لنهاية الفيلم ونهاية كيسي كان على درجة كبيرة جدًا من القسوة والفظاظة ليثير فكرة جديدة حول مفهوم الاعتداء الجنسي، وأنه يساوي القتل، وأن المجرم القادر على تنفيذ اعتداء لن يخشى ارتكاب جريمة قتل، فقد فعلها من قبل، وإن وجد راحة نفسية قصيرة العمر في إخفاء معالم جريمته فإنها ستظهر لاحقًا في حياته متخذة شكلًا جديدًا مهددًا.

سماح بصول

صحافية وناقدة سينمائية

رأيك يهمنا