التحرشات الجنسية بين مطرقة الرقابة الذاتية وسندان المجتمع
كنت في العشرين من عمري عندما زرت طبيب النساء للمرة الأولى، وكنت دون مرافق.
دخلت إلى الغرفة محرجة أتعثر وجلست على الكرسي. جلس أمامي الطبيب الذي لم ألتق به يوما وبدأ بطرح أسئلة بطريقة وقحة وبأسلوب لا يليق بإنسان مهني. صدمت من توجهه إليَّ بهذه الطريقة، ولكن لم أتفوه بأي كلمة وجلست هناك كالتمثال أجيب فقط بنعم أو لا. بعدها طلب مني الطبيب أن يفحصني فحصا جسديا وحولني لطبيب آخر للمراجعة ورجعت إلى بيتي.
تبدو هذه القصة قصة روتينية لامرأة ذهبت إلى طبيب النساء للفحص وثم رجعت إلى بيتها بسلام. ولكن في الحقيقة، ومع أنه مرت عشرون سنة تقريبًا على هذه الزيارة، ولكنها لا تزال محفورة في ذاكرتي حتى هذه اللحظة بكل تفاصيلها، بالأسئلة الوقحة التي سُئِلت، وبنظرة الطبيب إليَّ بشكل استفزازي والفحص الجسدي الغريب. لا أستطيع شرح الشعور الذي رافقني منذ تلك الزيارة، ولكنه شعور غير مريح بتاتا وكأنه "في اشي غلط"، وأن ما مررت به هناك لم يكن زيارة وفحصا روتينيا لدى طبيب النساء، وأنه لربما تم التحرش بي جنسيا.
عندما كنت في العشرين لم أعرف ما هو التحرش الجنسي، لم أعرف هل ما حصل معي هو أمر طبيعي وهل من المفروض أن أفحص من قبل الطبيب بهذه الطريقة، لم أشأ أن أتحدث عن هذا الطبيب بشيء قد يسيء إلى سيرته المهنية لأنه ربما هذه الشكوك هي محض تخيلاتي ومخاوفي فقط، والأكيد أنني خفت من أن أتهم بأنني أسيء إليه وأوبخ ويطلب مني السكوت والنسيان، لذلك آثرت السكوت على الكلام وحملت هذا العبء و الشعور بعدم الراحة والخوف وأنه "في اشي غلط" معي بصمت لسنوات طويلة، ومثلي مثل كثيرات من النساء اللواتي تعرضن لتحرش جنسي لم أخبر أحدا ولم أجرؤ على السؤال.
مع مرور السنوات تزوجت وأنجبت وزرت أطباء وطبيبات نساء عشرات المرات، وعملت في إحدى المؤسسات النسوية وأصبح موضوع رفع الوعي للتحرشات الجنسية هو مجال اختصاصي، ومررت العديد من الورشات والمحاضرات عن الموضوع، سمعت المئات من قصص النساء ضحايا التحرش، وبعد كل محاضرة أو محادثة ترجع تلك الزيارة لتخرج من مكانها الدفين وتحتل تفكيري. بعد سنوات من السؤال اتضح لي أن ما قام به الطبيب ليس روتينيا ومتبعا في تلك الحالات، فالأسباب التي جئت من أجلها إليه لم تستدع الفحص الذي قام به وأنه ربما استغل سني الصغير وعدم وجود مرافق وقام بفحص لم يكن له داع.
بعد أن تأكدت شكوكي تحول ذلك الشعور الغامض بأنه " في اشي غلط " إلى شعور ملموس، له ملامح واضحة ومفهومة- شعوري أن هناك شخصا استغل سلطته للمس جسدي بشكل غير لائق من دون موافقتي، وأنني كنت هناك غير قادرة على ردعه أو أن أقول له كلمة "لا" لشعوري بالعجز نتيجة الفرق الشاسع بيننا من ناحية العمر والخبرة وكونه هو صاحب السلطة والقوة في تلك الغرفة.
ما بين ابنة العشر سنوات وابنة العشرين والأربعين مرت سنون طويلة من الحياة كامرأة في ظل مجتمع يمتهن طمس النساء وإجبارهن على الصمت عن التحرشات الجنسية، مواقف كثيرة تعرضت فيها للشعور بأنه " في اشي غلط " وتتعرض لها النساء بشكل يومي في كل مكان، نظرات غير لائقة تنتهك حرمة أجسادنا في الشارع ومكان العمل وحتى المدرسة والجامعة، نكت ومزاح وملاحظات مشبعة بالإيحاءات الجنسية، رجال في المواصلات العامة لا يشعرون بالحرج من ملامسة أجساد النساء بدون موافقتهن، ومدرِّسون في المدرسة يمررون مواد حساسة مع تلميحات جنسية فظة، والكثير من الحالات التي شعرت فيها أنا وغيري من النساء أننا وضعنا في مواقف غير مريحة وينتابنا شعور أنه " في اشي غلط " ولكن لم نستطع أن ننتفض وأن نوقف هذا الانتهاك لجسدنا وروحنا.
صحيح أن حوادث التحرش التي مررت بها في مراحل عمري المختلفة لم تؤذني جسديا، ولا توقظني ليلا مرعوبة ولا تراودني الكوابيس، ولكنها بالتأكيد تؤثر سلبا على شعوري بالأمان، وتوقظ بي الشعور بالخوف والرهبة لأتفه الأسباب، كأن أستقل تاكسي مع رجل غريب في بلاد غريبة ويوقظ بي هذا الموقف الكثير من المخاوف المحبوسة داخل القمقم، وأصاب بنوبة هلع لا تهدأ حتى أنزل من سيارة الأجرة وأقف على حافة الطريق العام.
المشكلة الأكبر مع ظاهرة التحرشات الجنسية هو أن مجتمعنا يستهين بها ولا يرى مدى خطورتها وتأثيرها على النساء، مما يدفع بأغلب النساء اللواتي تعرضن للتحرش للتكتم عن الأمر ومحاولة نسيانه أو التعايش معه، طالما لم يتحول لأذى جسدي بالغ أو اغتصاب، ولهذا الأمر نتائج كارثية على المجتمع. إن التساهل مع التحرشات الجنسية لا يهدد الشعور بالأمان الشخصي لدى النساء فحسب، وإنما يزعزع ثقتهن بأنفسهن ويخلق لديهن الشعور بالبلبلة بين الصواب والخطأ؛ خوفا من أن يكون رد فعلهن لتصرف معين مبالغ فيه برأي المجتمع مما يحولهن من ضحايا تحرش لمجرمات يحاولن تشويه سمعة زميل أو صديق، وهذا الخوف من الممكن أن يثنيهن عن فضح المتحرش وكشف أفعاله، وحتى أن يدفعهن ليختلقن هن بأنفسهن تفسيرات لهذه التصرفات، مما يتيح الفرصة لكثير من المتحرشين العيش بيننا بهدوء وطمأنينة والتحرش بنساء أخريات دون رقيب أو حسيب.
إن عدم تصديق المجتمع للضحية بل ولومها على الأغلب على تفسيراتها "الخاطئة" لتصرف المتحرش واختلاق الأعذار لتصرفاته، يدفعها للتشكيك في نفسها ومشاعرها، بل وربما يدفعها إلى تكذيب نفسها ومحاولة التعايش مع التحرش كأنه أمر مفروغ منه لكيلا تشعر بالذنب والعار.
حقيقةً، إنني لا أعرف امرأة واحدة لم تتعرض للتحرش الجنسي في حياتها، جميعنا تعرضنا له بشكل أو بآخر، وأغلبنا خاف فضحه وقرر التكتم عليه خوفا من الفضيحة وتذنيب المجتمع، لذلك برأيي بالإضافة لرفع الوعي لدى النساء لظاهرة التحرش الجنسي ومنحهن الأدوات للتعامل معها وردع المتحرش، من المهم أيضا كمجتمع أن نتكاتف وألَّا نتساهل مع المتحرشين وألَّا نختلق لهم الأعذار. علينا تمرير رسالة واضحة وهي أن التحرشات الجنسية غير مقبولة بتاتا، وأن المتحرش سيحاسب ليس فقط قانونيا، وإنما مجتمعيا أيضا. آن الأوان لمجتمعنا العربي أن ينتفض ضد المتحرشين ويردعهم وأن يفرض عليهم الحرمان المجتمعي، وتذكروا دائما أن المتحرش الطليق الذي لا يشعر بالعار نتيجة أفعاله سيضرب ثانية وربما سأكون أنا أو أنتِ أو أنتَ ضحيته القادمة.