أسقطوا تعبير "سن اليأس" من قاموسكم
يزخر مجتمعنا بالعديد من المشاريع الثقافية والمجتمعية والسياسية والحقوقية، ولكل منها هويته ورؤيته، وطواقمه وفرق عمله وأنشطته وبرامجه التي تصب في خدمة شرائح عمرية أو مجتمعية ضاعت حقوقها أو على وشك الضياع في أروقة مؤسسات الكيان الذي ينظر إلى الشعب الأصلاني في هذه البلاد كعبء يعبث بتحقيق حلمه بدولة خالية من لغة الضاد.
مع تقديري لدور وأداء كل من أتيت على ذكرهم إلا أنني في سطوري هذه اخترت أن أتحدث عن "جمعية نسيجنا" في الناصرة، ليس بسبب مشروعها الوطني الذي يُعنى بحفظ الموروث الثقافي الفلسطيني ونقله للأجيال المتعاقبة فحسب، وليس بسبب بنائها نموذجا مُشرفا لنسيج اجتماعي خال من الطبقية والطائفية والعنصرية والحمائلية والمحسوبيات كما آل إليه مجتمعنا الفلسطيني وكما أراد له الاستعمار أن يكون.. بل لأن نسيجنا في جوهره وبنيته وكوادره وأدائه أعاد الاعتبار لشريحة عمرية من النساء لطالما شكلت ركيزة لحفظ الموروث التاريخي ونقله للأجيال المتعاقبة، وفنّدت المغالطات الذكورية التي أقصت هذه الشريحة مطلقة عليها تعبير "سن اليأس".
المدعو اعتباطًا "سن اليأس" هو سحر وسرّ جمعية نسيجنا . التي نمت بذورها سنة 2014 في أرحام سيدات عشن فلسطين قبل نكبتها. حينها لم تتجاوز أعمارهن عشرة أعوام، تلمّظن عذوبة الألفة والمحبة التي جمعت أبناء وبنات فلسطين، عوائلها المختلفة، وطبقاتها ودياناتها على ألوانها، سرى في أوردتهن حب البلاد منذ نعومة أظفارهن. وبعد تتالي العقود وإنهاك البلاد بالنكبة وتبدّل أحوالها، وبعد أن فقد المجتمع الفلسطيني الكثير من خصائصه وتقطعت خيوط نسيجه. لم تجد أولئك السيدات أن البكاء على الأطلال يليق بهم، ولم يرضين لهذا النسيج أن يتفكك، فعزمن على إنشاء "نسيجنا"، هذا الحضن الذي أعاد مذاق ورائحة تلك الأيام.
عن أهمية دور النساء في المنتصف الثاني من العمر أتحدث
جميعنا يعلم أن النساء يعانين من تمييز جندري فاضح ينعكس في جميع مناحي حياتهن، يبدأ من الولادة ولا ينتهي بالوفاة. يبدأ بالتمنيات حين تلد المرأة ابنة انثى
"الله يعوض عليك بصبي" و "تزينيها بالصبيان" و "هم البنات للممات"، ويرافق تلك المولودة طفلة ويافعة وشابة، أم وأخت وزوجة. حتى يأتي على محو اسمها بالكامل عند مماتها. ألا تحرم النساء من تخليد أسمائهن على شواهد قبورهن؟! ألا يكتب على شاهد قبر المرأة "أرملة فلان" و"ابنة فلان" و"حرم فلان"؟!
والمفارقة أن أحدا لا ينكر أن الأدوار التي تقوم بها النساء، سواء أمهات أم زوجات أم جدات، لا نهوض لعائلة أو مجتمع أو دولة من دونها. ومع ذلك يتم تناقل تعبير "سن اليأس" دون تفكّر أو تفكير.
للّفظ، كل لفظ، وللكلمة، كل كلمة، دلالات يُبنى عليها طيف من التوقعات والتقييمات والتصنيفات، تتغلغل في قائلها ومتلقيها والمنعوت بها. فإذا توقفنا عند التعبير "سن اليأس"، نجد أنه يطلق على النساء اللاتي انقطع عنهن الطمث ويستمر معهن للممات، فكأنما يراد القول لأولئك النساء لقد انتهى تاريخ صلاحيتكن. أو "نفذ تاريخ استعمالكن" ...
تذويت المجتمع لدونية النساء بشكل عام والسيدات المتقدمات في السن بشكل خاص لا يقتصر على الإساءة للنساء أنفسهن، بل هو إساءة للمجتمع ككل. هو محو لتاريخ الشعوب الاجتماعي عامة ولشعوب وقعت تحت نير الاحتلال والاستعمار خاصة. فإن أول ما يستهدفه المستعمر، كل مستعمر، هو محو الآثار التي تشير إلى وجود شعب له هوية وتاريخ وخصوصية. وما نعيشه، نحن الشعب الفلسطيني تحت الاستعمار خير دليل على ذلك.
قبل أن ننعت أمهاتنا وجداتنا ب"العاجزات" و"اليائسات" دعونا نُعرّج على "جمعية نسيجنا"، ربما نعيد حساباتنا في هذه التسمية المريبة.
كان ذلك عام 2014 حين شاركت السيدة فيوليت خوري وصديقاتها، حكمت وفتحية ونبيلة ونادرة وعبلة وبسمة، حُلمهن لراهبات الناصرة فما كان من الراهبات إلا أن أثنوا على المشروع ووهبن السيدات المبادرات مبنى لإقامة مشروعهن، وهكذا كان.
وضعت السيدة فيوليت وصديقاتها نصب أعينهن حفظ التراث وإعادة إنتاجه ونقله للأجيال الناشئة ولم يُغفلن توظيفه لدعم السيدات اجتماعيًا وماديًا.
مطلع شهر تشرين الأول 2014 انطلق المشروع والتحقت مجموعة كبيرة من سيدات الناصرة من مختلف الأعمار والخلفيات والثقافات والمهارات تلتقي وتتشارك في تعليم وتدريب وإنتاج الأشغال اليدوية التقليدية من نسيج وتطريز وشغل إبرة، كوحدة فلسطينية تضم الناصرة وما حولها.
هذا وانضمت لاحقا مجموعة شباب أكاديميين وطلاب جامعيين لأعمال تطوعية وفنية، فترعرعت نسيجنا ونمت لتصبح اليوم بيتا يعج بالبرامج الاجتماعية والفنية والثقافية للجميع.
لا يمكن الحديث عن "نسيجنا" دون التوقف عند "الجدات والأحفاد".. فمن أجمل المشاريع التي تثابر عليها الجمعية لقاء الأجيال. حيث تقيم "نسيجنا" سنويا مخيمات صيفية للأطفال والناشئة، ترعى المخيم وتقدم أنشطته سيدات متقدمات في السن، لا يعرف اليأس طريقه لقلوبهن ولم تشيخ أرواحهن مع مرور السنين، كما ولا بديل عنهن لمجالسة الأطفال وتعليمهم التطريز والنسيج وباقي الأشغال اليدوية التي اندثرت مع هرولة المجتمعات نحو الاستهلاك والمنتجات الصناعية الجاهزة.
هل بقي هناك داع أن نقول لا يليق بأمهاتنا وجداتنا هذا التعبير؟
بربّكم.. عن أي جيل يأس يتحدثون؟؟؟
هل هناك تاريخ "انتهاء صلاحية" للنساء؟