شَلّ المسيرة التعليمية في غزة: انتباهةٌ لِما يُمكن تعلّمه!
سمعتُ خلال تجوالي في سوق النصيرات بالمنطقة الوسطى من قطاع غزة صوتًا يناديني من بعيد: يا دكتور سامي أنا طالبك إسماعيل...! هل تذكرني؟ فقلت له: كيف أنساك يا إسماعيل، فقد كنت طالبًا مميزًا؟ لكنك خسرت جزءًا من وزنك الزائد، إنها من خسائر الحرب الجميلة يا إسماعيل. أشار إسماعيل إلى كشك صغير، وقال: "دكتور، بعد أن كنت عاملًا في واحدة من أكبر شركات البُن والبهارات بغزة، ها أنا أمتلك مشروعي الخاص للبهارات، إنه كشك صغير للبهارات يساعدني على إعالة أسرتي في الوقت الحالي، وسيكون نواة مشروعي الكبير في ما بعد، إنها حقًا تجارة مربحة.
لقد تعلمت منكم في مساق ريادة الأعمال بالجامعة أهمية أن يكون لي مشروعي الخاص، وها هو الأمر يتحقق اليوم، سأطبق ما تعلمت، وسأكمل مشروعي بعد الحرب بإذن الله ولن أعود إلى الوظيفة".
أيام قليلة لاحقة، تصادفني طالبتي "بسمة" تخبرني أنها فقدت والدها ووالدتها ومنزل عائلتها، وهي تنزح بالمنطقة الوسطى، فقلت لها معزيًا: إن فقدان الوالدين لا يعوضه شيء، لكن أسأل الله -تعالى- أن يعوضكم خيرًا، فقالت لي: "فقدت والدي ومنزلنا وما فيه من دفء وحنان، لكن علينا أن نصبر ونتحمل الصعاب، فلي أخوة صغار يجب عليّ رعايتهم"، حدثتني وهي قوية صابرة، وتركتها بعد أن أثنيت على صبرها وقوتها وأنا أقاوم دموعي.
في البيت أرقب ابنتي بشرى التي التحقت بتخصص الذكاء الصناعي بالكلية الجامعية قبل أسبوعين من السابع من أكتوبر تواظب على حضور دورات تدريبية متخصصة في البرمجة ولغاتها، وقالت لي إنها تتعلم ذاتيًا لحين عودة الحياة الجامعية، وانتهاء هذه الحرب اللعينة. أثنيت عليها وعلى حرصها على الاستفادة المثلى من الوقت على الرغم مما نمر به من ويلات.
وما أن اضطررت للنزوح لمواصي خان يونس تحت وطأة اشتداد القصف وسياسة التهجير الممنهج، حتى التقيت بزميل لي أكاديمي بالجامعة، أخبرني أن ابنه أنس هو مَن يتولى الآن الإنفاق على البيت في ظل عدم صرف الراتب الجامعي له، يقول لي بحرقة: "لقد تحمل أنس المسؤولية مبكرًا، كان يفترض به أن يكون على مقاعد الدراسة بالجامعة"، فأخبرته أن ابنه أنس سيكبر؛ ليكون رجلًا يُعتمد عليه، وقريبًا سيلتحق بتعليمه...!
أما صديقي رياض، فقد دعاني يومًا ليعرفني على صديق له اسمه ماهر يعمل معه في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين بغزة (الأونروا)، تحدثنا وكان حوارًا شيقًا للغاية، وأثرنا خلال النقاش موضوع خسارة الطلاب لعام دراسي، فأجابني ماهر إنه كان يدرس في جامعة بيرزيت، وخلال فترة الدراسة كانت هناك العديد من حالات إغلاق الجامعة وإغلاق المعابر، وأنه أنهى دراسته البكالوريوس في المحاسبة في 6 سنوات، وكان أسرع تخرجًا من زملائه، فمنهم من قضى في الدراسة ما يزيد عن 8 سنوات، وجميعهم الآن قادة في مؤسساتهم باختلاف تخصصاتهم.
دعونا نقف أمام هذه الأحداث لنخرج بتشخيص للحالة التي يمر بها التعليم في ظل حرب الإبادة الجماعية.
عُرف الفلسطينيون بأنهم شعب يستثمر في التعليم بشكل استثنائي. وعلى الرغم من سنوات الاحتلال وكثرة التضييقات على القطاع التعليمي فإن نسب الأمية التي تُسجَّل في أوساطهم تُعتبر من الأقل على مستوى العالم. لم يكن التعليم في فلسطين مجرد وسيلة ارتقاء اجتماعي؛ بل تحول إلى أداة نضالية قوية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
اليوم، يقف التعليم في قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر 2033م أمام حرب إبادة جماعية تستهدف كل مكونات الحياة، بما في ذلك العملية التعليمية. الاحتلال الإسرائيلي حرم ما يزيد عن 88 ألف طالب جامعي في قطاع غزة من الالتحاق بمقاعد دراستهم. لم يكن هذا فقط نتيجة الهجمات العسكرية المباشرة برأيي، إنما جزءًا من خطة أوسع تهدف إلى تدمير البنية التحتية المدنية، بما في ذلك المؤسسات التعليمية.
منذ بداية الحرب الأخيرة على غزة، توقفت العملية التعليمية تمامًا، حيث تم تدمير واستهداف 80% من المدارس ودمرت الجامعات بقطاع غزة بشكل شبه كامل. لم يكن هذا الدمار عشوائيًا، بل يدل حجمه برأيي على أنه كان متعمدًا، حيث قتل الاحتلال أكثر من 115 أكاديميًا فلسطينيًا، وأكثر من 5000 طالب. كل ذلك كان بهدف واضح من الاحتلال: قتل التعليم كجزء من خطته قتلَ الحياة المدنية في قطاع غزة.
لكن، وعلى الرغم من هذا الفقدان الهائل، فإننا لم نخسر كل شيء. صحيح أننا خسرنا عامًا من التعليم الرسمي؛ لكننا كسبنا عامًا من التعلم خارج أسوار الصفوف والقاعات الدراسية. فلقد تعلّم إسماعيل التجارة والحساب وريادة الأعمال والاستقلال المالي، وخاضت بسمة تجربة استثنائية غيرت ملامح شخصيتها، وعرفت بشرى قيمة التعلم الذاتي، وتحمل أنس المسؤولية مبكرًا.
يا له من عام تعّلم فيه طلابنا معاني كبيرة لا يمكن للكتب الجامعية أن تحتويها.
تصوير: المصوّر - الصحفي معتز عزايزة.
د. سامي نصر أبو شمالة
أستاذ مساعد في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية UCAS -قطاع غزة