خارطة الطريق- من معلمة مديرة إلى معلمة مؤثرة
المعلّمة المديرة، هي المعلمة التي تستطيع أن تدير الصّف، تعالج مشاكل الطلاب وتحدياتهم، تصمّم مبنى درسها بشكل فعّال، تدمج طرقًا بيداغوجية حديثة، تتابع تطورات تخصّصها، وحتى أنها تبني خطّة لرفع تحصيل طلابها وتحقّق ذلك. في مقالتي هذه أقصدكِ أنتِ؛ المعلمة القديرة، ولا أقصد المعلمة التي تمرّر السّاعات لينتهي الدّوام.
اسمحوا لي في هذه المقالة أن أتحدّث إلى المعلّمة، لأن غالبية طواقم التعليم في مدارسنا- كما تعلمون- من النساء. لا أهدف من هذا التوجّه إلى التمييز بحقّ المعلمين الرجال أقصائهم، بل هي رغبة لدي في الحديث إلى الأغلبية، مع أن الموضوع يخص المعلمين رجالًا ونساءً.
عزيزتي المعلّمة المُديرة، بما أن لديك كل هذه القدرات، وأنك تحظين باحترام الطلاب والطواقم والأهل لأنك مهنيّة وتحملين رسالة إنسانيّة في الوقت نفسه، فهذا يعني أنك قادرة على الذّهاب خطوة أخرى إلى الأمام، خطوة تأخذك من مجرد إدارة طالب اليوم والموضوع الحالي وأهداف هذا العام، إلى ما بعد ذلك، إلى التأثير لأجل الغد، إلى تعميق الرسالة في نفوس الطلبة لتبقى على مدار السنوات، إلى ترسيخ سلوكيات وقيم تحيى أيضًا خارج جدران الصف والمدرسة، خطوةً تجعلك مساهمة في بناء المجتمع.
أعرف التساؤلات الأولية المألوفة التي تتبادر إلى ذهنكِ من نوع: هل باستطاعتي إحداث التغيير في منظومة لا تشجّعني ولا تحفّزني؟ وهل هذا دوري دون أن يكون أي وظيفة رسميّة في المدرسة؟ وهل هذا ممكن أصلًا في ظل الإجرام والتهديد الذي يحيط بنا؟ وهل سيبقى شيء مع الطلاب مما تعلّموه في ظل الشّاشات؟
جوابي: نعم! افعلي ما بوسعك ولا تنتظري النتائج، ازرعي واتركي النماء لقادم الأيام. ربّما قرأتِ مقالتي المنشورة مع افتتاح العام الدراسي السابق، التي بدأتها بأنكِ في النهاية تدخلين الصف وتغلقين الباب وتصبحين وحدك مع الطلبة، وهنا تكمن فرصتك الخاصّة للتأثير وترك بصمة. إليك بعض النقاط العمليّة آمل أن تساعدك في الانتقال من مرحلة المعلمة المديرة إلى مرحلة المعلمة المؤثرة:
1- وجّهي بوصلتك يوميًا وقبل الخروج من البيت إلى وجهة المساهمة في بناء المجتمع، رفع القيم والقدرات لدى الطلاب. هذه البوصلة هي حصانتك في البحر الهائج الذي نتخبط فيه، فهي تحميك من خيبات الأمل والاستسلام.
2- اُنْظُرِي لوجوه طلابك وتخيلي أن أحمد سيكون الطبيب الذي ستتعالجين عنده عندما تكبرين، ومريم ستكون المهندسة التي ستصمم بيت ابنك، وسارة ستكون موظفة الدعم التقني التي ستتوجهين إليها لتحسين خدمة الإنترنت في بيتك، وسعيد الكهربائي الذي سيصلح أعطال الكهرباء في بيتك، ووَجدي سيخلصك من الرطوبة في حمام أحفادك. وهكذا. واسألي نفسك: عندما أقابلهم بعد تلك السنوات ماذا أريد أن يتذكّروا منّي وعنّي؟ هل سينظرون إليّ كمعلمة تركت فيهم بصمة في قيمهم وقدراتهم؟ كيف أريد أن يكون أداؤهم في مهنهم؟ هل سيقدّمون خدمتهم بأمانة ومهنيّة؟ عامليهم اليوم كما تريدين أن تجديهم غدًا، عامليهم اليوم بإيجابية، واهتمام شخصي وعلاقة مبنيّة على الثّقة.
3- افتتحي درسك بطريقة مختلفة كل مرة؛ بموقف ما ورأي الطلاب فيه، بحدث وكيف يحللونه، بخبر والتفكير بما يمكن أن يكون وراءه، بشخصيّة وما رأيهم بتأثيرها، بمقطع "تكتوك" وسبب انتشاره. رافقيهم في رحلة فهم معاني الأشياء والأحداث، أَصْغِي إليهم وافهميهم، لتعرفي كيف ومن أين عليك مرافقتهم، وبذكائك وإبداعك اختاري ما يخدم هدفك ويمكنك ربطه مع موضوع درسك.
4- تعاملي بمصداقيّة ومساواة وعدل مع الطّلاب، أليس أكثر ما ينقص عالمنا اليوم هو المصداقيّة والعدل؟ تمعنّي بما يحدث عالميًّا، ألا تملأ المداهنةُ والتضليل الشاشات؟ ألا تملأ الوحشيّة الناعمة والخشنة بقاع الأرض؟ ليجد الطلاب عندك على الأقل جزيرة صحّيّة، ليشاهدوا معك كيف يكون العدل. لعل هذه البذرة تكبر في نفوسهم ويسعون مستقبلًا إلى رعايتها وتوسيع دائرتها، فلن تعرف النفوس ولا البلاد طعم الأمان والطمأنينة إلا بوجود المصداقية والعدل.
5- مثل قطرات الماء التي تنحت الصخر، اجعلي تأثيرك بخطوات صغيرة لكنها عادة مستمرة ومتأصّلة في شخصيّتك، فلا تستصغري أعمالك اليومية مع الطلاب، فيومًا بعد يومًا بعد يوم تستقر في نفوسهم.
6- المواقف الصعبة مثل الفرص الكبيرة، إذ ستبقى طريقة ردة فعلك تجاهها وتعاملك معها هي القصة في ذهن الطلاب، اسألي نفسك والكبار من حولك أي مواقف لا ينسونها من أيام المدرسة؟ وتعلمي منها، بل واصنعي المواقف إن لم تأتِك وحدها.
7- افتحي جدران الصف والمدرسة، وادمجي في دروسك ونشاطاتك ما يعيشه الطلاب في واقع حياتهم، وصممي مشاريع تشبكهم مع العوالم خارج المدرسة - القريب والبعيد، المحلي، القطري والعالمي. فما أكثر الفرص وقنوات التواصل لهذا الغرض.
8- لا تكوني وحدك، تشابكي مع من ترتئين أنهن يشبهنك في رسالتهن، اصنعي مجموعتك، فهذا يزودك بالطاقة ويحيطك بمستشارات وداعمات، وكذلك أنت لهن.
9- تذكري في اختيار طريقة تأثيرك أن الطالب هو إنسان وفيه الجانب الجسدي والفكري والنفسي والعاطفي والروحاني، وكلما تعاملت مع مختلف هذه الجوانب كلما كان تأثيرك أعمق، فطريقة الجلوس أو الحركة لها أهميتها خلال النشاط التعليمي، والتحفيز على أفكار جديدة يوسع آفاقهم، وطريقة حديثك لها تأثير نفسي وعاطفي كبير، وتعميق الإيمان في النفوس يرفع حصانتهم. هذه أجواء متكاملة وروح تربويّة يمكنك بثّها في تصميم درسك.
10- كوني مديرة نفسك، تديرين مهامك، وقتك، تطورك وعلاقاتك. تعلّمي كل يوم شيئًا جديدًا، شاركي وتدربي على مهارات جديدة، فهذا يحفظ نشاطك ويضمن تجددك.
11- وظّفي الحداثة لمساعدتك لكن لا تجعليها بديلًا عنك، الذكاء الاصطناعي مساعد رائع لكنه بحاجة لمراجعة وتفكير ناقد، وانقلي هذه القدرات لطلبتك أيضًا، فكوني ممن يعمق جذورهم مع الماضي ويهذب فروعهم مع الحاضر ونحو المستقبل.
أنت لست ملاك فمن الطبيعي أن تخطئي ومن الحكمة أن تصححي وتستمري. ولست بطلة فمن الطبيعي أن ينال منك التعب وتفتر همّتكِ، لكنك معلمة اختارت أن تكون مؤثرة ومساهمة في بناء المجتمع، فاستجمعي طاقتك سريعًا وعودي إلى الطّريق.
د. أسماء نادر غنايم
محاضرة وباحثة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومؤسسة ومديرة في مركز InnDigital - للتطوير التكنولوجي في المجتمع والتربية. [email protected]