لماذا تقولين للجميع إنك خريجة بيرزيت؟

حتى لو لم يسألوكِ، لماذا تقولين للجميع إنك خريجة بيرزيت؟

أعتقد أنّ الموضوع أعقد بكثير من ساعات سفر الثماني التي كنت أنفقها في التنقل بين خطوط المواصلات العامة للوصول من عرابة البطوف إلى بيرزيت التي تغفو على كتف رام الله؛ من عرابة لحيفا، من حيفا إلى القدس، من القدس إلى باب العامود، من باب العامود إلى رام الله، من رام الله إلى بيرزيت.. لقد تعبت وأنا أعددهم!

إنّ السّر يكمن في الاختيار، "لماذا اخترت الدراسة في بيرزيت تحديدًا؟"، السؤال الذي كان يسأله إخوتي و"أبناء عمومتنا" أكثر.. لا يعرفون بأنّي أسأله لنفسي بصيغة مغايرة: لماذا اختارني القدر لأن أدرس هنا؟ إنها مسؤولية تاريخية وكم من الصعب أن أحافظ عليها! خاصة أنني من سكان الداخل المحتل، الذي تحيطه أصابع اتهام وعيون مراقبة من الجهات الأربع..

بدأت قصتي مع معهد العلم المفدّى، في أول محاضرة "مدخل إلى علم الاتصال"، حين بدأ المُحاضر حينها بأخذ الحضور والغياب، ذكرَ اسمي فرفعت يدي ورافقتها كلمة "أيّاني"، كإشارة لتأكيد التواجد، لا أنسى كيف التفت إليّ كل طلاب الشعبة حينها كأنهم وجدوا شيئًا ما يلمع في حديقة بيتهم،

-     "إنتِ من الداخل عرين؟" 

-      نعم أستاذي..

-      من وين؟

-      الشمال، عرابة البطوف!

من حسن حظي أنّ الأستاذ من عرابة جنين، ما أعفاني من محاولة شرح الخريطة مجددًا وشرح مركزية تواجد بلدتي ومدى ابتعادها عن أقرب بحر..

لكن مع مرور الوقت، اكتشفت أنّ هذا الشّرح جزء من رحلتي! الجزء الأحب حتى.. فالحواجز جعلت من الخريطة شيئًا يشبه الخيال، أمّا أصواتنا وشرحنا فجعلتها تعود إلى وظيفتها الحقيقية، حاسبة مسافة بين نقطتين بدون أن نحسب أزمة الحاجز!

 

ما زلت أتذكر المرات التي شعرت بها أنني لا أفهم الدرس بسبب تفاوت الصعوبة والأولويات بين نظام التعليم في المجتمع العربي في البلاد، ونظام الضفة الغربية، لدرجة أنني في أول محاضرة لغة عربية قاطعت الأستاذة وقلت لها إنّ كافة معلوماتي في النحو والصرف والإعراب انتهت في هذا الدرس، كيف سأتعلم في باقي الفصل الدراسي؟ هذا وأنا أعتبر من الطلاب المميزين باللغة العربية منذ صغر سني، فما بالك لو أتيتها بمستوى متوسط!!

أما في ما يتعلق باللغة الإنجليزية، بصراحة كنت أُفضّل أن لا أتكلم عن هذه الجزئية، لكنّي كنت الوحيدة في الشعبة التي تملك مخزونًا ضئيلًا من الكلمات، لم أُلقِ اللوم على نفسي في ذلك، فاللغة العبرية هي اللغة الثانية في منهاجنا، صحيح أنّ نظامنا التدرسي يهملها ويهمل كافة اللغات الأخرى ليؤثر بذلك على ثبات وقفتنا وقدرتنا على التعبير عن أنفسنا، لكن صدقًا لم يكن لي ذنب كبير في أنّي لا أستطيع خوض محادثة كاملة بغير العربية..

سرعان ما تلاشت هذه الصعوبات عند انتصاف السنة الأولى، بدأت أتعلم مساقات في الصحافة والإعلام بلغة عربية جميلة، بدأت أتعرف على المحاضرين وأطلب مساعدتهم في كل ما أواجه، لأجدهم أهلًا وليس مجرد طاقم تدريسي يحاضر ويمضي، أتذكر جيدًا كيف أَسمعت صوتي لأول مرة في محاضرة علم اجتماع، كان المُحاضر يعاكسني تمامًا في الرأي، لكنه أعطاني وقتًا لأقول ما أفكر أكثر من الوقت الذي أعطاه لنفسه بأن يحاجج بقناعاته. كان أول درس تعليم ديمقراطي أحصل عليه في حياتي بعد 15 سنة تعليم في مؤسسات تخاف بأن يُطرح سؤال واحد خارج التيار المسموح!

لا أخفيكم سرًا، شعرت حينها بالانتصار، ليس على أستاذي، بل على منظومة التعليم التي لم تكف يومًا عن تلقيني وفرض مناهج لحفظها وفهمها وتطبيقها وأنا أصلًا غير مقتنعة بها.

علّمتني بيرزيت كيف للمرء أن يكون طالبًا يحب ما يدرس، كانت الجامعة تنسج شغفًا لنا وتلبسنا إياه كل صباح، لا أتذكر أني استيقظت في يوم من الأيام وتغيبت عن الدوام لإني لا أريد، أو أنّ نفسيتي لا تسمح!

كانت بيرزيت تحترمني. في مرة من المرات تغيبت عن محاضرة "فن الإلقاء الإذاعي"، لَمحني الأستاذ وأنا جالسة مع أصدقائي بالقرب من المبنى الذي يعطينا فيه المحاضرة، سألني عن سبب تغيبي، أجبته دون كذب: "نفسيتي لم تكن بأحسن حال"، أجابني بالحرف الواحد: "معلش، اللي درسناه بتقدري تعوضيه لكن بتمنى نفسيتك تتحسن، ما رح أسجلك غياب لإنك صارحتيني بالحقيقة".. حتى اليوم، ما زلت أشعر بأهمية قول الحقيقة!

في كل جامعات العالم يتعلم الطالب أساسيات امتهان المهنة حسب التخصص الذي اختاره، إلا في بيرزيت، يتخرج الطالب منها يمتهن المهنة والحياة وأساليب التحرر والصمود، ليس بالضرورة أن يخوض معارك عظيمة لتطبيق هذه المفاهيم، لكنه قادر على فعل ذلك!

لمست في بيرزيت المعنى الحقيقي لأن يدرس الإنسان حضارة دول وشعوب لكي يستفيد من تجاربها بنهضة شعبه، وليس فقط ليعرف الإجابة على سؤال "معلومات عامة" في البرامج التلفزيونية.

استطعت في بيرزيت أن أجلس في الشارع دون الاكتراث لنظرة النخبة للتصرف ولا لتحليلهم له، لأنه في بيرزيت لا توجد "نخبة"، كلنا أبناء التراب وكلنا نقدسه بالقدر نفسه، وكلنا نعرف قدسية أن نتغلب عن الاستعلائية التي تتربى معنا وأن نعود إلى بساطة طبيعتنا.

مرّت أكثر من 4 سنوات على تخرجي، ما زلت حتى الآن أشعر أنّها بيتي وجدرانها كتبي، أساتذتها أهلي، ذكرياتها ثروتي، دروسها منهجي وسمعتها الأكاديمية والوطنية إرثي..

أمّا الآن عزيزي القارئ فإن كل ما قرأتَه أعلاه لا يشرح 1% من الأسباب التي تجعلني أقول دائمًا لأيّ أحد أراه "لماذا أنا خريجة بيرزيت؟"، لكن ربما لأنّ "أنت منذ بيرزيت غيرك"..

وأنا غيري..

وكل خريجيها، غيرهم!

أتمنى أن أستطيع يومًا ردّ جميلها عليّ عندما أخبر كل العالم أنها مدرستي، جامعتي، ومعهد العلم المفدى خاصتي!

عرين نصّار

من عرابة البطوف شماليّ البلاد، خريجة صحافة وإعلام من جامعة بيرزيت، عملت سنتين ونصف سنة في إذاعة الشمس، وفي إعداد برنامج تلفزيوني عبر قناة مساواة الفضائية، حاليًا تشغل منصب مركّزة إعلامية للجنة متابعة قضايا التعليم العربي، إضافة إلى محررة مضامين إخبارية لمنصات التواصل الاجتماعي في "راديو الناس"

يمامة برغوثي
مقالة رائعة كصاحبتها 🩷 بتمنالك تكوني دكتورة في جامعة بيرزيت العريقة بإذن الله 🩷
الأحد 1 أيلول 2024
اسراء حبيب الله
رائعة كلمات من ذهب 🫶🏼
السبت 14 أيلول 2024
رأيك يهمنا