التعليم: حق يُنتزع من فم الموت

في كل بقعة من بقاع الأرض، يُعتبر التعليم حقًا أساسيًا لا يختلف عليه اثنان، ويمثل نافذة مفتوحة على المستقبل، لكن في غزة، هذه النافذة غالبًا ما تُغلق بفعل الحرب والحصار، لتتحول إلى حاجز أمام أحلام جيل كامل من الشباب والشابات. ليست هذه المرة هي الأولى التي يُحرم فيها طلبة غزة من حقهم في التعليم، في ظل إبادة جماعية تستهدف ليس فقط أرواح الناس، بل أيضًا مستقبلهم.

يتعرض قطاع غزة لإبادة جماعية خلّفت وراءها آلاف الضحايا من الشهداء والجرحى، وألقت بظلالها الثقيلة على القطاع التعليمي. فَقَد آلاف الطلاب والطالبات فرصتهم في الجلوس للامتحانات النهائية، التي تمثّل جسرًا يعبرونه نحو المرحلة التالية من حياتهم. في لحظة، تلاشت أحلام الحصول على الشهادات التي تمثل ثمرة سنوات من الجهد والدراسة.

يمكنني أن أروي هذه المعاناة من تجربتي الشخصية؛ ففي العام 2007، عندما بدأ الحصار على غزة، كنت من بين الطلاب الذين حرموا من فرصة متابعة تعليمهم العالي في الخارج. حصلت حينها على منحة لدراسة الماجستير في بريطانيا، وقضيت عامًا كاملًا في التحضير وتقديم الطلبات، لكنني لم أتمكن من مغادرة القطاع بسبب الحصار المشدد. لحظاتُ الإحباط تلك لا تُنسى، حيث رأيت جهدي الذي استمر عامًا كاملًا يتبخر أمام عيني، ومع ذلك، لم أستسلم، وتقدمت للمنحة مرة أخرى في العام التالي. وعلى الرغم من أنني استطعت المغادرة في النهاية، فإن ذلك جاء بعد عناء كبير وتأخُّر.

ليس هناك شك في أن التعليم في غزة، وعلى مدار السنوات الماضية، كان حقًا يُنتزع انتزاعًا من براثن الموت واليأس. في كل مرة يتعرض فيها القطاع لعدوان، تكون المؤسسات التعليمية من بين الأهداف الأولى، سواء من خلال تدمير المدارس أو منع الطلاب من الوصول إليها، أو حتى من خلال قطع التيار الكهربائي والمياه، مما يجعل الدراسة والتحضير للامتحانات أمورًا صعبة على الطلاب.

وفي سياق العدوان الأخير، كانت الظروف أكثر قسوة؛ إذ لم يقتصر الأمر على تعطيل الامتحانات، بل امتد ليشمل فقدان آلاف الطلاب أرواحَهم، أو أفرادَ أسرهم، وتدمير منازلهم، وفقدانهم الأمانَ الذي يُعد أحد أهم المقومات النفسية للتحصيل العلمي. كيف يمكن لطالب أن يُركز على دراسته وهو يعيش في وسط ركام منزله، أو بعد فقدان أحبته؟ كيف له أن يخطط لمستقبله وهو محاط بالموت والدمار من كل جانب؟

إلى جانب ذلك، تعرضت البنية التحتية للتعليم في غزة لدمار شامل؛ حيث تم تدمير جميع جامعات القطاع، مما أوقف العملية التعليمية بشكل كامل، وحرم آلاف الطلاب من الاستمرار في دراستهم الجامعية. كما تم استهداف عدد من المدارس، التي كان من المفترض أن تكون ملاذًا آمنًا للطلاب، لكنها تحولت إلى مراكز إيواء للنازحين الذين فقدوا منازلهم. لا يترك هذا التدمير المنهجي للبنية التعليمية للطلاب سوى أطلال من الآمال والطموحات التي كان من المفترض أن تكون جسرًا لمستقبل أفضل.

ليس هذا فحسب، بل حتى من استطاع منهم الحصول على منحة دراسية في الخارج، وجد نفسه محاصرًا داخل القطاع، غير قادر على السفر. إن هذا الوضع لم يحرمهم فقط من التعليم، بل حرمهم أيضًا من حقهم في الأمل والطموح.

وفي ظل هذه الأوضاع القاسية، يتساءل الكثيرون: إلى متى سيستمر هذا الظلم؟ إلى متى سيظل التعليم، وهو أبسط حقوق الإنسان، مستهدفًا بشكل منهجي في غزة؟ إن المجتمع الدولي مدعو للوقوف بحزم ضد هذه السياسات التي تنتهك حقوق الأطفال والشباب في التعليم، وتهدف إلى قطع جذور المستقبل الفلسطيني وتحويله إلى مجرد رقم في سجلات الوكالات الإغاثية.

من المؤلم أن نرى أحلام آلاف الشباب تتلاشى أمام أعينهم، أن نرى عيونهم تفيض بالأمل المنقوص وهم يتابعون أخبار الدمار والموت. هؤلاء الشباب، الذين كان من المفترض أن يكونوا علماء المستقبل، مهندسيه وأطباءه ومعلميه، يجدون أنفسهم الآن عالقين في دوامة من العنف والبؤس، غير قادرين على تحقيق أحلامهم أو حتى العيش حياة طبيعية.

في النهاية، يجب أن نذكر أن التعليم ليس رفاهية، بل هو حق أساسي يجب أن يُحمى ويُصان. إن ضمان حصول الطلاب في غزة على حقهم في التعليم يجب أن يكون أولوية قصوى، ليس فقط للفلسطينيين، بل للمجتمع الدولي بأسره. فالتعليم هو السلاح الأقوى في وجه الظلم، وهو الأمل الذي يبقى، حتى في أحلك الظروف. ومن هنا، يجب أن نتكاتف جميعًا للعمل من أجل حماية هذا الحق، وضمان مستقبل أفضل لشباب غزة، الذين يستحقون أن يعيشوا في بيئة آمنة تتيح لهم تحقيق أحلامهم وطموحاتهم.


تصوير: المصوّر عبد الرحمن زقوت.

رشا أبو شعبان

ناشطة مجتمعية من قطاع غزة

رأيك يهمنا