تعيينات المعلمين العرب: هذا ما رَأَيتْ!

يجب أن يتصدر التعليم سلم أولويات العرب في هذه البلاد، كما تتصدر القضية الأمنية اهتمامات المجتمع اليهودي؛ أي أن يكون التعليم قضية العرب الأمنية في هذه البلاد. إنها أمانة عرضت علينا جميعًا فقبلناها ولم نُشفِق منها، لذا يجب أن نؤديها بتفانٍ، فالمطلوب تعليم أبناء هذا المجتمع وتربيتهم، بما يشمل الأبعاد كافة: التربوية، والنفسية، والحضارية، وكذا الأبعاد الكمية والكيفية. إن رأس المال الوحيد الذي يمكن أن يستثمره العرب في هذه البلاد هو رأس المال الثقافي.

اهتم الشعب العربي الفلسطيني بالتربية والتعليم في زمن الانتداب، فقد ارتفع عدد المدارس في فلسطين من 403 مدارس في العام الدراسي 1943 إلى 555 مدرسة في العام 1948،[1] وكان الأهل يتحملون جزءًا كبيرًا من نفقات التعليم في المدارس. ولكي نوضح مدى ذاك الاهتمام، نسرد الحوادث التالية:

1.   كان الشهيد فؤاد حجازي، المناضل من أجل استقلال فلسطين في الثلاثينيات من القرن الماضي، على موعد مع حبل المشنقة مع رفيقه عطا الزير في حزيران 1930، وعلى الرغم من ذلك، كتب في رسالته الأخيرة لصديقه أحمد عبد الرحمن يوصيه: "ولا تنسى إتمام تعليم أخي".
فالشهيد حجازي لم ينس وهو في طريقه إلى حبل المشنقة أهمية تعليم أخيه.

2.   كان الثائر والمجاهد الفلسطيني في الثورة العربية الفلسطينية عام 1936 يهبط من الجبال إلى محل سكناه كي يدفع ما يستحق عليه من أموال لمدرسة الحكومة الانتدابية، ثم يعود إلى صفوف المقاتلين والمجاهدين، وذلك لسحب أي ذريعة من يد حكومة الانتداب تُغلِق بموجبها المدارس. الأسئلة التي تطرح نفسها في ضوء ما سبق: لماذا لا نجد هذه الروح عند العرب في هذه البلاد؟ ولماذا ينتظرون اليهود لكي يطوروا جهاز التعليم العربي ويحسنوه؟ لماذا لا يكون الفلسطيني في عهد الانتداب مثالًا يحتذى به اليوم؟  لماذا لا يكون التعليم العربي مستقلًا؟  لماذا لا يوجد مجلس للتعليم العربي؟  وما هي أهداف التعليم العربي؟ (راجع كتاب التعليم العربي في إسرائيل، تأليف الدكتور محمود مصالحة عام 1993).

بعد العام 1948 وضياع فلسطين، بقي في البلاد نحو 156 ألف عربي من أصل 1.4 مليون،[2] فُرض عليهم الحكم العسكري، وأصبح تنقّلهم مرهونًا بتصاريح دخول وخروج مع صورة شمسية. أراد العرب تعيين معلمين لمدارسهم فأخذت السلطة تعين معلمين من الصف الرابع والسادس في المدارس وعقدت لهم دورات فيما بعد، وكانت تعيينات المعلمين والمديرين والمفتشين تتم من خلال الطرق التالية:

1.   عن طريق الحاكم العسكري الذي سيطر على حياة العرب حتى العام 1966.

2.   جهاز المخابرات الذي حلّ محل الحاكم العسكري.

3.   الأحزاب السياسية وخصوصًا حزب "مباي" الحاكم.

4.   الرشاوى بأنواعها في الماضي والحاضر.

5.   تجميع نقاط لا يعلم ما بداخلها إلا الله سبحانه وتعالى في أيامنا هذه.

6.   السلطة المحلية والمجالس والبلديات التي لا تقل سوءًا عن وزارة المعارف.

كان الحاكم العسكري في اللواء هو المسيطر وهو الآمر الناهي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، فلا يُعين أي موظف إلا بموافقته، حتى أنه كان يحاول السيطرة حتى على طلاب المدارس الثانوية (قليلة العدد) عن طريق الترهيب والترغيب. أذكُر مرة أنه استدعاني إلى مكتبه وكنت في الصف الحادي عشر في المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة التي لا تبعد عن مكتبه إلا عشرات الأمتار، فأخذ يهددني بأنني سوف لن أتوظف في العام القادم (كانت العادة تعيين معلمين بعد الصف 12)، وكانت تهمتي أنني أحب المرحوم جمال عبد الناصر رئيس جمهورية مصر العربية. أما في المرة الثانية فطردني وحاول الإمساك بي بتهمة أنني أتعاطف مع الحزب الشيوعي.

بقي الحال على ما هو عليه حتى العام 1966، حيث أُلغى الحكم العسكري، فسيطرت الشرطة والمخابرات على العرب وبدأت التعيينات عن طريق المخابرات. أردت الدخول إلى دار المعلمين، فكفلني رئيس المجلس المحلي أن لا أتدخل في السياسة. أما تعييني كمعلم فكان عن يد المرحوم أحمد أبو تايه من الناصرة الذي أعطى ماتور سيارة رينو لأحد الموظفين الكبار، وأنا لم أعلم بذلك إلا بعد سنوات (الله يرحمك يا أبا سليمان).

دارت الأيام، فاشتغلت مديرًا لمدرسة راهبات الناصرة في حيفا، وهذه مدرسة أهلية لا سيطرة للحكومة عليها، عملت مدة 8 سنوات ثم انتقلت للمدرسة الثانوية في دبورية، كنت "تربية راهبات" والكلمة عندي هي كلمة، وكان يعمل في المعارف موظف مسؤول عن جهاز المخابرات عينته الوزارة ليكون همزة وصل بين دائرة المعارف العربية وجهاز الاستخبارات، لا يُعين أي معلم أو مدير أو مفتش أو موظف إلا بموافقته. عندما انتقلت إلى دبورية قمت بتعيين كلًا من المعلم عبد الكريم المصري من كفر قرع وجهاد أبو العسل من الناصرة والمعلم شوكت العدوي من طرعان وثلاثة معلمين من دبورية دون علم المخابرات وموافقتهم، علم رجل المخابرات في المعارف بالتعيينات، فأقام الدنيا ولم يقعدها، هو تربية مخابرات وأنا تربية راهبات! فطلب مني أن أفصل المعلمين من العمل فرفضت، وموظف المخابرات لا يعاكسه أحد، "يقطع الرأس بالفقوسه"، فطالب بفصلي. كنت أقول له دائمًا "ما بقطع الراس إلا الذي ركّبه"، لقد تقدمت بشكوى ضده في اللجنة البرلمانية في الكنيست وفي هيئات الدولة المختلفة، طُلب للتحقيق فلم يعد صاحب الهيمنة والسيطرة، أرسلت رسائل إلى المديرين والمفتشين ورؤساء السلطات المحلية بعدم إطاعة رجل الأمن، ضعفت سيطرته على المدارس وكنت أقول للمديرين: "ما بقطع الراس إلا الذي ركّبه". كان يفاوضني أنني إن قمت بتعيين أحد زُلمه في المدرسة فهو يعين لي حتى خمسة معلمين، وصل إلى خمسة معلمين من جماعتي، وكنت أرفض، لأن زُلمه هم رجال مستحدثون من المخابرات. وهذا هو الحال بالنسبة للسلطات المحلية، يريد رئيس المجلس دائمًا التوظيف من جماعته، أراد رؤساء سلطات محلية عقد صفقات معي، تتلخص بأنني إذا أقنعت مدير المدرسة الثانوية (كنت رئيس لجنة مديري المدارس الثانوية) بأن يعطي حصصًا لاتباعهم فسوف يقومون بالمقابل بتدريس موضوع الدين الإسلامي في المدرسة (كنت رئيس طاقم الدين) حتى وصل الأمر برئيس السلطة أن    
  يعطي المدير بعض الحصص لمعلمين وعدهم بذلك في الانتخابات، أما في دبورية فكنت أرفض تدخل رئيس المجلس في التعيينات، وهناك من الرؤساء في دبورية من تقدم بشكاوى ضدي في الشرطة لمنعي تدخّلهم في التعيينات، حتى أنني منعت أخ رئيس المجلس من دخول الفصول التدريسية، وكان يجلس في غرفة المعلمين يتقاضى راتبًا شهريًا من دون أن يمارس مهنة التعليم.

أما بالنسبة لتجميع النقاط، وامتحان اللغة العربية، فحدث ولا حرج، هناك من المعلمين من لا يتقدم للامتحانات ويأخذ علامة تسعين بالمئة، والنقاط هي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.

أخلصوا لعملكم يا من سيحاسبهم الله واتقوا الله.

من الجدير بالذكر أنني عملت عتالًا بعد إنهاء الصف الثاني عشر مدة سنتين في سوق الخضراوات في تل أبيب لأوفر النقود، بعدها انتقلت إلى حيفا، كنت عتالًا في شركة "عسيس" و"شيمن" في باب المينا. وعندما كنت طالبًا في دار المعلمين كنت أذهب للعمل كعتال في البناء كل يوم بعد الساعة الرابعة، وكانت علاماتي في دار المعلمين من أعلى العلامات، لم أحظ بحياة ناعمة، لذا لم أحسب حسابات للفصل لأني كنت عتالًا افترش الأرض والتحف السماء. أيها الاخوة، ليكن شعاركم "ما بقطع الرأس إلا الذي ركّبه" توكلوا على الله وليكن شعاركم في العمل إرضاء الله والرسول، ولا تخافوا من أحد.     


[1] المصدر: تعليم الفلسطينيين ماضيًا، حاضرًا ومستقبلًا، تأليف عبد القادر يوسف، دار الجليل - عمان 1989.

[2] المصدر: التعليم العربي في إسرائيل، تأليف سامي مرعي، نيويورك 1989.

د. محمود مصالحة

رئيس المجلس الإسلامي الأعلى

رأيك يهمنا