بين فرديّة المصدر وتعدده

يشكل الأداء الإعلاميّ المرئيّ والصحافي، بشكل عام، دورًا هامًا وحيويًا، في نقل الخبر والمعلومة. لهذه الوسيلة الإعلاميّة، أهمية في تشكيل الوعي الفردانيّ والجماعيّ في المجتمع. منذ أحداث السابع من شهر تشرين الأول (أكتوبر)، الهجوم العسكريّ الذي نفذته حركة "حماس" على غلاف غزة، وقابله رد الفعل الفوري بهُجوم عسكريّ إسرائيلي إنتقاميّ، على قطاع غزة، المستمر  مع كتابة هذه السطور.. إرتفعت وتيرة مشاهدة  النشرات الإخبارية أكثر من المعتاد. نتلقى  نحن المشاهدين الأخبار المرئيّة متكئين على الكنبات، في صالونات بيوتنا، أو في أماكن عامة، مثل المقاهي، أو عبر المذياع،  من خلف مقود القيادة، متابعين للأحداث وما يجري هُناك في القطاع، وهنا في إسرائيل. بعد أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) تابعت منصات إعلامية مرئيّة مختلفة، لأحصل على خبر مُتكامل نوعًا ما وصورة أكثر شموليّة عن الحرب. محليًا وعالميًا، محليًا تابعت القناة الاسرائيليّة الأولى "كان"، عربيًا  قناة "الجزيرة"، عالميًا  شبكة " سي إن إن" الأمريكيّة وهيئة الإذاعة البريطانيّة "بي بي سي" ومنصات أخرى، بالإضافة الى مواقع التواصل الاجتماعي التي برأيي يحمل جزء منها دورًا هامًّا وفعالًا في نقل وتوثيق الحدث والسرديّة. 

في بداية الحرب، سخّرَ الإعلام الغربي جلّ تركيزه على السابع من أكتوبر، وأظهر تعاطفًا كبيرا مع الإسرائيليين مع ما حدث في غلاف غزة  وما وصفها بـ"المجزرة الإرهابية"، وواصل مواكبة الأحداث في إسرائيل مستعرضًا سرديّات الناجين وفظائع الهجوم.

في المقابل، تم التعامل مع ما يحدث في قطاع غزة على أنه مُبرَّر ضمن جهود محاربة الإرهاب كما وصفه الإعلام الغربيّ، الذي حاولَ في بدايةِ الأحداث أنسنة  الطرف الإسرائيلي وتجريد الطرف الفلسطيني من الإنسانية والبشرية. ورغم تحيّز إعلامهم في البداية مع الجانب الإسرائيلي،  إلّا أنَّ حاسة سمعي التفتت إلى مصطلح بالإنجليزية يُستخدمُ في إعلامِهم وترجمتهُ العربيّة "مسلحون" يطلقونه على رجال حركة "حماس" Militants.

 أثار هذا المصطلح انتباهي،  تساءلت بيني وبين نفسي: "لماذا لا يستخدمون مصطلح "إرهابيين" أو "مخربين"  كما الإعلام الإسرائيلي؟ باستنتاجي أن هيئة الـبي بي سي وشبكة " سي إن إن" الأمريكيّة اتخذتا موقفًا حياديًا باستخدام مصطلحاتها، ربما لا تريدان أن تظهر حقيقة تأييدهما لطرف من الطرفيْن فكلمة "إرهابي" مشحونة بعمل عنيف كبير ومُرعب،  والإرهابيُّ، - تُستخدم لوصفِ جماعَةٍ لا يتم الاتفاقُ معها أخلاقيًا، إذ أنّ الإعلام الإسرائيلي انتقد وبشدة الإذاعتين لاسستخدامِهما هذا المصطلح، واعتبرَ إعلامُ إسرائيلَ أن إستخدام "مسلحين" فيه أنسنة لأفراد حركة "حماس"  ويقلل من شأن الرعب والفظائع التي ارتكبوها في غلاف غزة.

الإعلام الإسرائيلي يسعى جاهدًا لاستخدام كلّ مصطلح يجرد أهل القطاع من صفات الإنسان البشري، لكن بعد عدة أيام من الهجوم الشرس والمذابح على القطاع، شرع الإعلام الغربي بتسليط الضوء على القطاع أكثر من أحداث السابع من أكتوبر. وبهذا قلَّ التعاطف مع الإسرائيليين، وهنا لا بُدّ من الملاحظة حول تسرّع رد الفعل الإسرائيلي بقصف القطاع. ولم يعطِ وقتًا لنفسه وللعالم للتأمل بما حدث هناك، ربما كان غباءً وتسرعًا في الانتقام الفوريّ. لأنه بهذه الحالة فقد التعاطفَ العالميّ معه مع بقاء المؤيد له.  

أما في الإعلام العربي، فالمصطلحات المستخدمة لوصف أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) متشابهة تقريبًا، حيث تُخفى حقائق عن الأحداث و تُنشأ محاولات لعدمِ نشرِ أخبار الضحايا من عملية "طوفان الأقصى" من الجانب الإسرائيلي،  محاولًا "وأقصد الإعلام العربيّ" تجريدهم من الإنسانية بوصفهم صهيونيين، ولكلمة "صهيونيّ" صدى وأثر سلبي عند العربيّ، فالصهيوني هو مُحتل الأرض الفلسطينية.  كما أنه لا يتم التفريقُ بين الصهيوني واليهودي، ويُعتبرُ الجميع صهيونيين، وثمّة انتقائية في نشر الخبر لصالح حركة حماس. وإهمال بإحضارِ الصورَة كاملة ما قد يُضلل المشاهد. 

في المقابل الإعلام الإسرائيلي منشغل بشكل منقطع النظير بنفسه، يبثّ سرديات الناجين، من أحداث "طوفان الأقصى"، ما يمكن اعتباره غسيلًا للأدمغة، عبرَ إظهار أنّ الطرف المتضرر هو واحدٌ أما الطرف الآخر في قطاع غزة فلا ذكر له في إعلامه المرئيِّ غير أنه إرهابي ويجبُ القضاء عليه. أما في صحيفة هآرتس العبرية فتُستحضر معاناة الطرف الفلسطيني في القطاع بشكل كبير.  

في الإعلام الاسرائيلي يستخدم أيضًا بشكل عام مصطلح "مخربين - محابليم" حيث استُخدم هذا المصطلح في أحداث 7 أكتوبر بوصفِ عناصر حماس، ويُشاع استعمال مصطلح "مخربين" عند حدوث "عمليات" على لسان الفلسطينيين، ما يسميه الإسرائيليون "عمليات تخريبية"، فينعتون كل "مُهاجمٍ" أو "مسلّح" فلسطيني من الضفة الغربية "بالمخرب". أعتقد وأرجح أن مصطلح "مُخرّب" بدأ استعماله حديثًا، وذلك عندما نفّذت حركة "فتح" أول عملية لها في إسرائيل بتاريخ الأول من كانون الثاني – يناير  عام 1965 حين  تسلل ثلاثة من حركة فتح من الأردن الى إسرائيل لتنفيذ "عملية"، حيث زرعوا عبوة ناسفة في "هموفيل هآرتسي - الناقل القُطري" وهو مشروع المياه القُطري في إسرائيل، واستهدفت العملية حينها تخريب الناقل، فيما لم تنجح العمليّة في نهاية المطاف. استخدم الإسرائيليون في هذا العام 1965 مصطلح "أول عملية (تخريبية) في إسرائيل من حركة فتح"،. وكان المقصود بالتخريب، الإضرارُ بشيءٍ ما، وقد يكون استخدام "مخرّب" كنوع من "تقزيم" الفاعلين لأن "الإرهابي" تحمل صدى أكبر، هو شخصية مهيمنة ومهددة وتثبّ الخوفَ. 

وبالنسبة لاستخدام وتغيير المصطلحات عند الإسرائيليين، نعود إلى الوراء، لعام  1958 عندما تأسست الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) تحت قيادةِ الرئيس جمال عبد الناصر، ترجمَ الإعلام الإسرائيليُّ حينها اسم الجمهورية الى "روبوبليكا عرفيت مؤوحدت" بالعبرية، واختصارها (رع م)، وترجمةُ (راعام) في العربية "رعد"، بعد فترة قصيرة قرر الإسرائيليون تغيير كلمة "روبوبليكا" إلى "قهيليا" (قهيليا عرفيت مؤوحديت) وإختصارها ( ق.ع.م). لأن مصطلح "رعد" مخيف لحاسة السمع  العبريّة، في مسعى من الإعلامِ إلى تصغير حجْمِ الجمهورية، فاستعمال كلمة "رعد" للعدو (مصر وسوريا) فيها تضخيم مثل الرعد الآتي من السماء، وهذا مؤشّرٌ على أن المسميّات تحملُ أثرًا نفسيًا على الإسرائيليين. 

أما في سياق الصحافة المكتوبة  قرأت مؤخرا في سياق أحد التقارير في صحيفة "هآرتس"  العبريّة عن تسمية الرهائن كبار السن من قبل حماس "كبار السن خدموا في الجيش أي كانوا جنودا"، "أما الأطفال فسيكبرون ويخدمون بالجيش ويصبحون جنودا"،. على غرار ما يستخدمه الإعلام العبري على أطفال غزة كذلك: "سيكبرون ويصبحون حمساويين مخربين"  بكل الأحوال، النظر والوصفُ على هذا النحو تجردُ الطرفين إنسانيّته، وقد تمنح شرعيّةً لأي خطوةٍ تتخذ ضدّهم، لذا فإنه من المستحسن  أن يحاول الأفراد أخذ المعلومات والأخبار الإعلامية من عدة مصادرَ وعدم الاكتفاء بمصدر واحد، لأنه بهذه الحالة يحصل على صورة أكثر متنوعة وشمولية لنفس الحدث. 

روضة غنايم

من سكّان مدينة حيفا، وهي باحثة في التاريخ الاجتماعي والتاريخ الشفوي، وكاتبة مقالات في عدة منصات. صدر لها كتاب «حيفا في الذاكرة الشفويّة، أحياء وبيوت وناس»، عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» في عام 2022

شاركونا رأيكن.م