إحتمالات الجسد الفلسطيني في عدسة الكاميرا
بعد ساعات من القصف المتواصل، يحاول المصور أن يلتقط صورة لشارع الجلاء في حي الرضوان شمال قطاع غزة، الكاميرا تهتز، بينما هو يقترب ويبتعد بحذر لتتسع عدسة الكاميرا لجميع الأجساد الطافية على جنبي الحي، يفشل المصور بجمع جميع الشهداء في صورة واحدة، في مشهد حزين ومرعب، قدم مبتورة لجسد بالغ لا يتضح صاحبها/صاحبتها، خلفها بقعة دم لجسدين متداخلين بفوضوية لا نستطيع التمييز بينهما، الوجوه بلا ملامح والعيون مطفأة، التدقيق بظروف الصورة يحرضنا بعزم على الإيمان بشهادة الكاميرا على الذوبان المؤلم للزمن، خاصة عندما تصير الوحشية وسيلة لطمس الواقع، وأن الكاميرات في غزة اليوم تستعيد الحقيقة التي يتطلب برهانها عشرات الكتب، في مرحلة تحاول وكالات الإعلام الداعمة للاحتلال الإسرائيلي من تجريد الفلسطيني من إنسانيته، الإسرائيلي يُقتل أما الفلسطيني يموت، ويتم تقديمه للعالم كرقم، الغزاوي اليوم في الإعلام العالمي هو رقم، يكبر كرقم، ويجوع كرقم، ويقتل كرقم، بلا أحلام أو طموحات كي لا يظهر للفلسطيني وجهًا بشريًا، ولتكون الإيديولوجيا المتواطئة مع الاحتلال هي التي تعيد تصنيع الحدث.
إننا نرى منذ عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من عدوان وحشي على قطاع غزة، كيف تحولت الكاميرا إلى الشاهد الوحيد في زمن الإبادة، آلاف الصور والفيديوهات تتناقلها وسائل الإعلام ومنصات التواصل الإجتماعي، التقطها صحافيون وناشطون، يسابقون الزمن ويحاولون القبض عليه، ليوثقوا لنا أقسى احتمالات الجسد الفلسطيني، وهو يحاول شرح روايته من خلال الموت.
لندرك أن تصريح وزير الأمن الإسرائيلي "رابين" منذ انتفاضة الشعب الفلسطيني الأولى عام 1987، على مشهد سحق جنود الاحتلال لرأس فلسطيني بالحجارة "أن أمن إسرائيل أهم لها من صورتها الجميلة"1 مازال يعني اليوم أن أقصى احتمالات هذه "الصورة الجميلة" لا تكون بإيقاف مبدأ الوحشية بل بالقتل بلا تصوير، طالما الكاميرا يمكنها أن تكون "لا سامية" عندما توثق الجريمة، فلا بد من اعتماد مبدأ القتل في الظلام، في مدينة لا شهود فيها، ولا عدسات جاهزة لابتلاع الواقع، لتتضاعف أرقام استهداف الصحفيين والمصوريين الميدانيين إلى 109 شهداء حتى الآن، في ثلاثة أشهر فقط، ليتجاوز الاحتلال باستهدافه عدد الذين قتلوا في حرب فيتنام التي دامت 20 عامًا، وهم 63 صحفيًا، وعدد الصحفيين الذين قتلوا، على مدى ست سنوات من الحرب العالمية الثانية، وهم 69 صحفيًا.
ضمن هذه الظروف الاستثنائية والصعبة القائمة على وحشية الإبادة، التي تستهدف وتجرد بشكل مباشر الحياة في غزة من جميع مقوماتها، أصبح للصورة الفوتوغرافية معنى سياسي يتجاوز اليقين، إنها لا تعرض الجريمة فقط، بل توضح سياقها ضمن السردية الفلسطينية، ولا تجعل من الصورة دليلاً للحاضر فقط، بل رمزاً عن الماضي وشكلاً من أشكال المستقبل، وهو ما قدّم للعالم برهاناً لا يقبل الجدل لما حدث في الماضي وما يتكرر الآن، ضمن سياق سياسي واجتماعي يجعل من رؤية فلسطين بشكل عام وغزة الآن تحديداً، مثالاً للسلطة التي تفرضها الكاميرا على التاريخ، خاصة في حالة الاستيطان ومحاولاته المستمرة للسيطرة الكاملة على السردية المكانية والزمانية. لندرك كيف يرى المسلوبون من ماضيهم الكاميرا كلحظة مستمرة غير قابلة للمحو، خاصة أن جميع المصورين في غزة ليسوا مجرد مراقبين للحدث، بل جزءًا منه، وكل صورة تصل هي بالتأكيد لمصور لا يمتلك أي حصانة، بل هو ينتمي للحدث بشكله المباشر، واحتمالية أن يكون هو أو أحد أفراد عائلته جزءاً منه هي واردة باستمرار، ولكن مع ذلك استطاع المصورون داخل غزة وخارجها، من استيعاب دلالات المكان من جديد رغم محاولات انتهاكه الوحشي، ومن بناء علاقات جديدة لإعادة اكتشاف أنفسهم في ظل الإبادة، مكّنتهم من ضم جميع أركان العمل التوثيقي، لنرى صورًا توضّح أبعاد الجريمة، الانتهاك الممنهج الجسد الفلسطيني، حياة الأفراد والجماعات في ظل الاحتلال.
جزء من هذه الرؤية يتضح في فكرة منصة "Untold Palestine" أو "فلسطين غير المحكية" التي تركّز على سرد القصص الرقمية لحياة الفلسطينيين، المنصة القائمة منذ عام 2021 يتبلور دورها اليوم في زمن الإبادة، بعرضها لصور الشهداء قبل استشهادهم، كما كانوا يروْا أنفسهم، وكما كان يراهم من حولهم، أغلب الصور والحكايات التي تصل إلى المنصة نرى فيها شهداء مبتسمين خارج تصنيفات وكالات الإعلام، أو الأرقام، أو حتى صفات البطولة والهزيمة والانكسار، وكأنهم يستعيدون الوجه الذي طالما حُرموا منه، كونهم بشراً لا أقل ولا أكثر، وخلودهم الشخصي لا يكون في التذكر فقط، بل محاولة استعادة حكايتهم الشخصية قبل مرور الآلة العسكرية الإسرائيلية، وهذا يعزز مدى فداحة جريمة الاحتلال، وما تغيره سياساته الاستيطانية والعسكرية في حيوات الأفراد، واليوم في غزة تحديداً، نرى كيف يتم نزع الجسد الفلسطيني ليس من أرضه بل من طرق رؤية العالم له، عندما يحاول الاحتلال حجب الوجه الإنساني عن أهالي القطاع، ويقدمهم كما قال وزير الأمن الإسرائيلي "غالانت" وهو يعلن عن فرض الحصار الكامل على قطاع غزة "نحن نحارب حيوانات بشرية". لنرى في منصة "فلسطين غير المحكية" كيف القصص المصورة في فلسطين قائمة على جوهر يلغي الحجب والاستغلال الممنهج لوجوه الفلسطينيين وحكاياتهم.
إننا نكبر اليوم في عالم جاهز دائماً للتجاوز والنسيان، خاصة لو كانت السياسات الإعلامية تحاول استغلال الضحية أو محوها، في الحالتين تستعيد منصة "فلسطين غير المحكية" هامشًا مهمًا، يتجاوز التغطيات الإعلامية للفضائيات، بما هو أعمق مما تبحث عنه نشرات الأخبار، وأكثر مما يحاول المتابع تجاوزه، وفي طريقة الرؤية هذه نرى كيف تتحول الصورة الفوتوغرافية للشهيد، كأداة تجرد الواقع من احتمالات الموت، وتشرح النقيض الذي كان يبحث عنه أهل فلسطين، كون الحياة في جوهرها قائمة على تجاوز الاحتلال ومحاولات العيش، لذلك نرى دائمًا في القصص المصورة في المنصة حكايات وصورًا نستعير فيها عيون أقرباء الشهداء وأصدقاءهم لنراهم في عيونهم هم، وفي هذه الاستعارة، نتجاوز شعورنا كون الذين نرى صورهم ليسوا من الغرباء، كأننا صرنا نعرفهم، منتمين بألفة لحياتهم التي انتهت بمجرد وصولنا إلى البطاقة الأخيرة من القصة.
مثل المشاريع الأخرى أثناء الحروب الاستثنائية والصعبة، تلهمنا دائماً لاكتشاف أقسى احتمالات الشر، هذا العمق المجرد للموت، وكيف يصير الجسد ليس مرآة للجريمة فقط، بل يعكس ما لا يمكن للمتابعين البعيدين تخيله، هذه المسؤولية التي يخوضها المصورون الفوتوغرافيون في قطاع غزة اليوم، تجعلنا أمام إجراء واضح ودقيق لواقع يبدو مستحيلاً، هذه الاستحالة يختبرها يومياً المصورون في غزة، وهم يكرسون انتباههم البطولي الذي يفكك الرواية ويعيد بناءها من خلال الصورة، إنهم يلتقطون صوراً للشهداء كما لم يروا أنفسهم أبداً، الصور الأخيرة للعائلات وهي تحاول التماسك أمام الجسد البارد للضحية، التقاط الكاميرا للمشهد الأخير، في لحظة إبادة، يعني التقاط فاصل هش بين عالمين، يحاول أن ينتمي إليهما المصور، الأول هو عالمه الشخصي في مهنته وقدرته على استيعاب الدور، والثاني هو قدرته على اكتشاف المكان دائمًا كمادة للتوثيق، وهذا ما يبدو واضحاً في عمل أغلب الصور المنتشرة للمصورين في غزة، ومن ضمنهم عبد الرحمن زقوت، الذي استطاعت صورهُ أن تكون رد فعل مستمرًا لمآلات الوحشية المفروضة على حياته وحياة الفلسطينيين في غزة، حيث يرى العالم اليوم في الصورة الفوتوغرافية التي تُلتقط من غزة كيف تتداعى ادعاءات المعرفة، حيث رفض الواقع وحجبه لن يجعل التسامح مع القتل ممكنًا، خاصة حين يستخدم هاني الشاعر الكاميرا دون أي تعديلات، إنه يستخدمها كما لو أنه يستعير جزءًا من ذاكرته الشخصية ويحاول نقلها للعالم، في طريقة التصوير هذه، نكتشف كيف تنظر الذات الفلسطينية إلى نفسها وإلى العالم، وكيف تتبلور "الأنا" الفلسطينية التي كانت لطالما كانت تبحث عن مكان آمن لها.
أخيرًا أي محاولة للكتابة عن الصورة اليوم في ظل استمرار الإبادة، تعتبر ملاحظات تساعدنا على فهم اللحظة التي ننتمي إليها، وسوف نذكرها دائمًا، ولكن مهمة التحديق المستمرة في العيون والأجساد والأيدي، تجعلنا في دعوة دائمة لفتح العيون حتى آخرها، لنرى ويرى العالم آخر احتمالات القيامة، عندما يصير الموت الوسيلة الأخيرة للنجاة في قطاع محاصر تمامًا. لقد مدنا المصورون بصورهم، لندرك أن ما لم نره قد يكون أفظع وأكثر قسوة، ولكن عدم تصويره لا يعني أبداً أنه لم يحدث.
الإحالات:
1 تصريح سابق لإسحاق رابين أثناء الانتفاضة الأولى، وثقه الكاتب محمود درويش في مقالة "الكاميرا، والصورة، والمشهد" التي نشرها في العدد 202 في مجلة "اليوم السابع" عام 1988. مصدر المقالة هو كتاب مقالات "اليوم السابع" التي عمل على جمعها وتقديمها حسن خضر، وتم نشرها في مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
تصوير: عبد الرحمن زقوت.
أنتجت هذه المادة بدعم من “الأكاديمية البديلة للصحافة العربية” التي تشرف عليها فبراير، شبكة المؤسسات الإعلامية العربية المستقلة وينشر بالتعاون مع “فارءه معاي - المنصة الإعلامية العربية المستقلة.