صحافيّو الـ 48 في مُواجهة التحدّيات و"الرّقص على السلّم"
يُعدّ المَثَل الشعبي الفلسطيني "زَيّ اللي رَقصت ع السلّم، لا اللي فوق شافوها، ولا اللي تحت سِمعوها" تعبيرًا بليغًا عن حالة الصحافيين الفلسطينيين في أراضي 48. يقف هؤلاء الصحافيون في منطقة رماديّة من حيث الهوية والانتماء، فلا الإسرائيليون يعترفون بهم كجزء من مؤسساتهم الإعلامية، ولا الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة يرونهم ممثّلين كاملين للقضية الفلسطينية بسبب مواطنتهم الإسرائيلية. تُنتج هذه الازدواجية تهميشًا مضاعَفًا يتركهم عرضة لانتهاكات لا تَجِد من يدافع عنها.
يعمل في أراضي 48، نحو 196 صحافيًا وصحافيّة، يُشكّلون جزءًا أساسيًّا من المَشهَد الإعلامي المحلي والدولي. تتنوّع وسائل الإعلام التي ينشطون فيها بين مواقع إخبارية، ومحطّات إذاعيّة، وصحف محلّية تعاني من تحديات سياسيّة وتضييقات، كما وتحدّيات اقتصادية، وميزانيّات محدودة تُلقي بظلالها على مستوى المعاشات التي يتقاضاها الصحافيون. ومع ذلك، كَشَفت الحرب الأخيرة التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023، عن هشاشة وضع الصحافيّين الفلسطينيّين في الدّاخل المهنيّ والإنساني أكثر. خلال هذه الفترة، سُجّلت أكثر من 100 حالة انتهاك ضدّهم، ما يُعدّ رقمًا غير مسبوق مُقارنة بمتوسط الانتهاكات السنويّة التي كانت تُسجّل سابقًا.
تشمل هذه الانتهاكات الاعتداء الجسدي، والتهديدات، والاعتقالات التعسفيّة بسبب منشورات أو تقارير إعلامية. الأكثر إثارة للقلق هو أنّ مصدر هذه الانتهاكات لم يقتصر فقط على المؤسسات الرسميّة الإسرائيلية كما كان معتادًا، بل امتد ليشمل ممارسات عنصريّة مِن المجتمع الإسرائيلي نفسه. على سبيل المِثال، تعرّض الصحافيان محمد مجادلة وأحمد دراوشة لهجمات لفظية وجسدية خلال تغطيتهما أحداثًا في مدينة حيفا، وهي مدينة يُفترض أنها رمز لـ "التعايش". يجعل هذا المناخ العدائي من تّواجد الصحافيين الفلسطينيين في الحيّز العام أمرًا محفوفًا بالمخاطر.
إلى جانب الاعتداءات المباشرة، تواجه الصحافة الفلسطينية قيودًا قانونية صارمة. تُطبق إسرائيل أنظمة طوارئ فضفاضة المحتوى، مما يُمكّنها من تقييد استخدام مصطلحات مُعيّنة مثل "شهيد" و"احتلال" في التقارير الصحافية، وهي تعريفات مهنيّة اعتادت الصحافة الفلسطينية على استخدامها في التغطية الإعلاميّة. اليوم، مخالفة هذه التعليمات تعني تعريض الصحافيين للاعتقال وسحب التّراخيص المهنيّة. مثال بارز على ذلك هو ما حَدَث مع منصة إعلاميّة تعرّضت لضغوطات كبيرة وسُحبت تراخيص صحافييها (بطاقة الصحافيّ) بعد نشر تقرير استخدم مصطلح "إبادة جماعية" لوصف السياسات الإسرائيلية.
في ظلّ هذه التحدّيات، يبرز غياب الحماية المهنيّة للصحافيين الفلسطينيين في الـ 48 كمعضلة رئيسة. على الرغم من التّواجد في منطقة نِزاع، يفتقر هؤلاء الصحافيون إلى سترات واقية من الرصاص أو خُوَذ تحميهم أثناء تغطية الأحداث الميدانيّة، كما يفتقرون إلى تدريبات خاصةً تساعدهم على تجاوز المخاطر واتخاذ التّدابير المناسِبة في التّغطية الميدانيّة في مناطق نزاع مُسلح.
المحاولات التي بُذلت لتوفير هذه المعدّات والتّدريبات غالبًا ما باءت بالفشل بسبب نقص الموارد أو تمييز المؤسسات الإسرائيلية في توزيعها. حتى النقابات الصحافية الإسرائيلية التي يُفترض بها حماية جميع الصحافيين، لم توفّر هذه المعدّات للصحافيين العرب، واقتصر توزيعُها على الصحافيين اليهود.
الأمر الأكثر إحباطًا هو الغياب شبه الكامل للتضامن الدولي مع صحافيي الداخل الفلسطيني. في حين تحظى الانتهاكات التي يتعرّض لها الصحافيون في غزة أو الضفة الغربية باهتمام دولي وإدانات واسعة، وهذا أمر ضروريّ ومهمّ جدًا، فلا يمكن مُقارنة ما يحدث مع الزملاء في غزة، الذين استشهد من بينهم قرابة الـ 200 صحافيًا، بما يحدث مع الصحافيين في الـ48، وكذلك الأمر مع صحافي الضفة الغربية، الذين يعانون من تحديات أصعب مما يعانيه الزملاء في الـ 48، لكن حتى إدانات من باب رفع العَتَب وتعزيز الزّمالة الصحافيّة لم يحظَ بها الزملاء في الـ 48. يُعزز هذا الغياب من شعورهم بالعزلة ويُضعف قدرتهم على مواجهة القمع الذي يتعرّضون له.
من الناحية القانونية، فإن الإطار الدولي لحماية الصحافيين يوفر أدوات نظريّة يمكن الاستفادة منها. المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تُؤكد حقّ كلّ فرد في حرية التعبير، بما في ذلك الحقّ في "استقاء الأنباء والأفكار وتلقّيها ونقلها." بالإضافة إلى ذلك، تنصّ اتفاقيات جنيف على ضرورة حماية الصحافيين في مناطق النزاع، بينما يدعو قرار مجلس الأمن رقم 2222 إلى تعزيز هذه الحماية ومحاسبة منتهكي حقوق الصحافيين. ومع ذلك، يبقى هذا الإطار الدوليّ بعيدًا عن التّطبيق الفعلي في حالة الصحافيين الفلسطينيين، حيث تتجاهل إسرائيل هذه الالتزامات بشكل منهجيّ.
حتى المؤسسات الدولية التي تعنى بالحقوق الإعلاميّة، بمُعظمها (هنالك استثناءات يتوجب التنويه إليها)، تتعامل مع الصحافيين الفلسطينيين في إسرائيل بحكم مواطنتهم- إسرائيلية، مُدّعية أنه لا يمكن تقديم خدمات دعم وإسناد لهم.
لمواجهة هذه التحديات، يحتاج الصحافيون الفلسطينيون في الداخل إلى تنظيم أنفسهم بطريقة أكثر فعاليّة نحو تدويل قضيّتهم. من الضروري العمل على توثيق الانتهاكات والدفاع عن حقوق الصحافيين. يجب أن تُبنى جسور تواصل مع منظمات دولية مثل "مراسلون بلا حدود" واللجنة الدوليّة لحماية الصحافيين لتسليط الضوء على معاناتهم وحشد الدّعم الدولي. كما يُمكن استخدام وسائل الإعلام الدولية وشبكات التواصل الاجتماعي لنشر قصصهم وفضح السياسات التمييزيّة التي يواجهونها.
علاوة على ذلك، يجب أن تُعزّز الجهود لتوفير حماية قانونية للصحافيين. يمكن تحقيق ذلك من خلال تعيين محامين متخصصين في القانون الدولي يتولّون متابعة قضايا الصحافيين أمام المحاكم الإسرائيلية والدولية. يمكن أن يُشكّل التعاون مع مؤسسات المجتمع المدني المحلّية والدولية قوة ضغط فعالة على إسرائيل لتغيير سياساتها تجاه الصحافة.
في الختام، يُمثل الصحافيون الفلسطينيون في أراضي 48 خطّ الدفاع الأول في وجه محاولات تزييف الواقع وطمس الحقائق. دورهم في نقل صوت الشعب الفلسطيني وفضح الانتهاكات لا يمكِن الاستغناء عنه. على المجتمع الدولي أن يدرك أن دعمهم ليس فقط قضيّة تتعلّق بحرية التعبير، بل هو أيضًا جزء أساسي من النضال من أجل العدالة وحقوق الإنسان. الصحافة الحرّة هي أساس أيّ مجتمع عادل، وفي الحالة الفلسطينية، هي معركة مستمرة من أجل الحَقيقة والكَرامة.