غزة "الناجِية": مَوعدٌ مع فَزَعُ لا مفرّ مِنه

بعد فَرحة مُبكية وحزن مَخلوط بالألم، بعد 467 يومًا من الإبادة الجماعية على قطاع غزة آن الأوان لأخذ نَفَس واحد بلا طائرات محلّقة، بلا ظل طائرة الدرون القاتلة، بلا سماء ممتلئة بالطائرات المحمّلة بالصواريخ والقنابل الملعونة، بلا خوف القصف العشوائي، وبلا فَزع البوارج القريبة في البحر، وبلا دبابات ومجنزرات قد تدوس جَسدك في لحظة لا تعرف فيها إن كنت تعيش كابوسًا أم حقيقة!

فَزَعٌ قادم لحياة مجهولة في غزة؛ كيف ستكون حياة الغزيّ بعدما أقفلت الحرب عدّتها على مضض؟ ولا ضمانات في العُرف الغزاوي لأيّ إنسان أو حاكم أو دولة بعدما نَحَرت الحرب جلودنا وسلختها مئات الأيام وملايين الساعات والدقائق والثواني، بعدما صرخت الغزّيات والغزّيون وأحدٌ لم يسمع النداء، فعلى استحياء وصدمة كبيرين لفتا العالم أجمع لم يتمكن أحدٌ من وقف الحرب، لم يتمكن أحدٌ من إدخال المساعدات الإنسانية للحفاظ على ما تبقّى من حياة البشر في غزة، لا ضمانات على حياة الغزيّ بعدما فقدنا أحبّتنا، وأهلنا، وبيوتنا، جيراننا، وأحلامنا، ومدارسنا، وجامعاتنا.

 لا تسأل الغزي كم عمره الآن أبدًا لأن دقائقه التي عاشها في حرب الإبادة إنما هي سنوات، لا يغرّنك الشّيب فهو لم يعد مؤشرًا للعمر إنما سقوطه كلّه، إنه يقول لك كم كان خوف الطفلات من الحرب، وقصُّه قصيرًا -بعدما تغزلت نساء غزة بشعورهن- كي لا تصاب المحرومات من الماء النظيف والمنظفات الأمراض، لا تسأل أحدًا من غزة: هل أنت فرح أم حزين الآن؟ لا إجابة تشفي غليل الغزيين، إنه مزيج من مشاعر الحرّية من الخوف الممتد مئات الأيام، وحرقة الكرامة التي أجبرته على العيش على التراب وفوقه قطعة قماش لا تُسمن ولا تُغني من الحرّ والبرد ولا تحمي من الطائرات الحربية!

فزَعٌ قادمٌ يا غزة حين يركض المتلهّف لرؤية بيته الذي حرم منه طيلة أيام الحرب فلا يجده إلا أطلالًا، فزعُ ألا يعرف الطريق إلى بيته، فالشوارع مدمّرة ومعالمها مدمّرة والمدن لم تَعد كما كنّا نعرفها، إنها تتألم وتئن مثلنا تمامًا، عاشت طيلة الحرب وَحيدة كئيبة دون أصحابها، فَزَعُ الغزي الحالم بأن يجلس على أريكته ويتمدّد على سرير كان يعرف مواطن قدميه ورأسه فلا يجد إلا الحجارة المتراكمة وقد قُتل البيت بكلّ ما فيه بفعل صواريخ الاحتلال الإسرائيلي فباتت الأَسرّة والأغطية والذكريات الجميلة حطامًا وقد اختلطت بها دماء الأحبة، فزعُ الغزيّ الذي سيبحث بكلتا يديه عن عظام من فقدهم فلا يجد أثرًا ويقع في تيه الحزن المرعب: هل أكلت الكلاب العظام بعدما أكلت لحم الأحبة؟! هل تبخرت عظام الآباء والأبناء بفعل الأسلحة الغريبة؟ كيف يمكن أن يحقق الغزيّ أمنياته المُرعبة بعد أن توقّفت الحرب ظاهريًا بينما حربُه مع الحياة قد بدأت! حربُه ليجد المأوى والمَلبس والخيمة مرّة أخرى!

فَزَعُ الغزي كيف يمكنه أن يعيد شتات أُسرته الممزّقة بين شمالٍ وجنوب وقبرٍ وفقدان؟ كيف سيرتّب أفكار الحياة فيما احتلت أفكار الموت عقله وسكنت روحه مئات الأيام؟ كيف سيحكي هَمّه ولمن وكلّ غزة مكلومة مهمومة موجوعة؟ كيف سيجد الطريق إلى الحياة في غزة مرّة أخرى بعدما دُفنت أجزاء من المدينة في قبور مبانيها بعضها في عمق الأرض وبعضها مدفون فوق الأرض بالرّكام والحُطام!

ألا تدخُل غزة بركامها ورفات شهدائها موسوعة "جينيس" في الدمار والهلاك بفعل الاحتلال الإسرائيلي؟ لكن هذا آخر همّ الغزي، ففزع ما بعد الحرب إنما هو موت آخر وقهر آخر!

فَزَعُ ما بعد الحرب

كلّ ما سمعناه عن الحرب كان مجرّد صورةٍ وأنين، كان الدّم الطازج ينتشر على الشاشات، والجثث المشوهة التي لا تزال تئن بفعل الحياة، آلاف الجرحى المُلقَون على أسرّة أو أرض أو خيمة جميعهم ينتظر موتًا مؤجلًا أو نجاة مؤقتة قد تخلقها فرصة وقف الحرب، فغزة بلا مشافٍ وبلا مراكز صحيّة وبلا أدوية وبلا خدمات صحيّة، كم يفزعني أن ينتظر أكثر من خمس وعشرين ألفًا من الجرحى حتفهم أو نجاتهم، ليتهم الآن يخرجون للعلاج ولا نفجع بهم مع امتداد وقت الموت والقهر، وعشرة آلاف مريض ومريضة سرطان دون علاج مئات الأيام، نعم عام وأكثر من ثلاثة أشهر بلا علاج، كيف لا نَفزع على صحتهم المتآكلة وعلاجهم الذي لم يكتمل وتدهور حياتهم وصحتهم؟ إنهم أمهات وآباء وأبناء بحاجة للنجاة، ويا ليت طوق النجاة يأتي وإن أتى متأخرًا فإن قولًا آخر قد نالته الحرب من صحتهم وحياتهم. يا لفزع أن تدرك أن عدد الشهداء ليس كما يعلن إنما أكثر بكثير، فَكَم من موت تصلّبت فيه شرايين قلب أصحابه كمدًا وقهرًا وخوفًا أثناء الحرب، وكم من مريض لم يسعفه العلاج، وكم من موت لم يؤجل نفسه ولم يرحم أحدًا! يا لفزعنا يا غزة بك ومعك وعليك!

فَزَعُ الحياة الطبيعيّة في مدن باتت دمارًا وركامًا بلا صرف صحي وبلا مبانٍ لتحقيق العدالة ولا مبانٍ مهيئة للتعليم ولا أماكن كافية للحياة، فالخيمة التي سيتم وضعها على ركام المنزل سيأتيها صيف وشتاء آخر وربما صيف وشتاء آخر وربما صيف وشتاء وشتاء وشتاء آخر وآخر ولن يعمّر البيت في حلم مفزع لكل غزة! ماذا عسانا أن نفعل؟ كيف عسانا أن نُكمل حياة الشقاء الجديدة؟ كم فَزَعٌ علينا أن نختبر؟ إن الناظر من بعيد والمتدثّر في غطاء بيته ومدفأته قربه وكوبه الساخن يرتشف منه وهو يظن أن مَن بغزة قد نجو بقرار وقف الحرب، لا يدرك أن حرب الواقع ما بعد الإبادة أشد فتكًا بالغزيين، لذا تلطّفوا في كلماتكم، أسندوا ظهور أهل غزة نساء ورجالًا احتضنوا فزعهم خوفهم من الحياة الغَريبة عنهم، فقد عرفوا الموت عامًا وأشهرًا ولا يزالون لا يصدقون أنهم ناجون تلك النجاة التي قد تقتلهم حين يصبحون معها وجهًا لوجه، احضنوا أحبتكم أصدقائهم فإن قلوبهم مرتجفة كقلب عصفور بلّلته النيران، واتركوهم ليبكوا طويلًا، فلم يُفتح بيت عزاء واحد في الحرب، والآن حان وقت الحِداد والعزاء والحزن والحياة وذلك الأمل بالنجاة!

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

رأيك يهمنا