"السُوشيال ميديا" نُقطة ضوء في عَتْمَة "الإِبادَة الإعلاميّة"

عَبر لقائها في برنامج موريس مورغن، قالت الصحافية الأمريكية كانديس أوينز إنها تشعر بالنّدم لدعمها الرواية الصهيونية في ما مضى، بعد أن غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي منظورها تمامًا لما يحدث في فلسطين، وأضافت: "أَنا مستاءَة من نفسي لعدم انتباهي بشكلٍ أكبر في وقت سابق".[1]

وقالت أوينز إنها تشعر بالاشمئزاز من نفسها لأنها "لم تمتلك الوعي الكافي للتمييز".

ليست كانديس المؤثّرة الوحيدة التي جعلتها وسائل التواصل الاجتماعي تغيّر رأيها فقط، هنالك كثيرون في مراكز صنع قرار أو في الإعلام كانوا مضلَّلين تمامًا بفعل الكذب والتّضليل وتغيير الحَقائق، والحَظر الذي ينال كلّ مَن يؤيد الشعب الفلسطيني أو القضيّة الفلسطينية.

جاء هذا التّغيير في العالم الغربي جراء متابعة وسائل التواصل الاجتماعي، فما بالُنا لو أن هنالك حقًّا تغطية إعلامية حقيقية للإبادة الجماعية التي بدأت منذ السابع من أكتوبر واستمرت 470 يومًا، وصولًا لوقف إطلاق النار وبدء سريان الهُدنة في قطاع غزة.

لقد شملت الإبادة الجماعية لغزة إبادة للتعليم، والبيئة، وإبادة صحيّة، وأيضًا كانت هنالك حرب إبادة إعلامية اتّضحت منذ اللّحظة الأولى واليوم الأول، فاستباحة الصحافيين وعائلاتهم وتنفيذ التهديدات والقَتل بحقّهم والاستمرار في القَتل والتّدمير لكلّ جذورهم العائليّة والمهنيّة، إنّما هي جرائم استهدفت الحاضر الصحافي والماضي الصحافي، وأيضًا استهدفت المستقبل، ولا مثيل لهذه الإبادة في العالم أجمع، فلم يسبق أبدًا أن تم استهداف عائلات الصحافيين إلا في غزة! قد أشير في هذه المقالة المختصرة لبعض مؤشرات الإبادة الإعلامية، وإن كانت هنالك أهميّة للتوثيق البحثيّ وشهادات الإعلاميين والإعلاميّات حول كلّ ما واجهوه من آلة قتل بهدف النّيل من الحَقائق وإخفاء الجرائم المرتَكَبة بحقّ المدنيين من نساء وأطفال وعائلات. 

مَنع دُخول الصّحافة الأجنبيّة إلى غزة لأكثر من 470 يومًا، ولا يزال

يصر الاحتلال الإسرائيلي على منع الصحافة الأجنبية من دخول غزة، ويَحرم بقصد مُباشر الحقّ في التغطية الحربية الإعلامية للصحافيين والوكالات ليحتكر وحده تصدير روايته، وبذلك تشجّع إسرائيل على إقصاء الصحافة وعين الحقيقة وتروّج رواياتٍ مضلّلة، وتنتهج مبدأ التّغطية على جرائمها، وفي الوقت ذاته هي تُكذّب الرواية الفلسطينية وتلفّق ما تريده وتجعل عَين الحقيقة عَوراء.

 إن منع الوصول للمعلومات والوصول لقطاع غزة أثناء حرب الإبادة هو منعُ حقٍّ تكفله القوانين الدوليّة والقانون الدوليّ الإنساني، والأصل هو تغطية إعلامية تتميز بالشفافية والنزاهة، فمن حقّ الإعلام أن يزدهر وأن يقوم بدوره في كشف الحقائق والتوثيق وإيصال أصوات الناس والمكلومين والنازحين، لكنّ الاحتلال يُدرك أهمية الكلمة والصورة والتوثيق في حينه، فهي سعت ولا تزال لخلق بيئة من الضّبابية والفوضى والإمعان باستمرار جرائمها ضد الإنسانية بعيدًا عن أعين الصحافة والتوثيق كي تفلت من العقاب في سياق ما بعد حرب الإبادة الجماعية، ولولا صمود وبقاء وتفاني الصحافي والصحافية الفلسطينية ممن ظلّوا داخل غزة، لما كانت هنالك صورة، ولا حقائق، ولا توثيق جرائم دقيقةً بدقيقة وساعةً بساعة؛ لما كانت هنالك صورة أو خبر عن المجازر التي ارتكبت بحقّ سكان غزة.

 ورغم ذلك، فهنالك الكثير الكثير من الجرائم التي لم يتم توثيقها أو تصويرُها ونُفّذت بدم بارد بحق عائلات فلسطينية وأطفال، وخير دليل أنه في اليوم الأول والثاني من الهدُنة التي دخلت حيّز التنفيذ، تم انتشال أكثر من مئة جثة متحلّلة في مدينة رفح لا يُعرَف شيء عن ظروف قتلهم، منهم أطفال ونساء وعائلات، وقد منَعَت آلة الحرب الإسرائيلية الصحافة من وصول منطقة رفح كمنطقة عسكريّة مغلقة لتمارس الإبادة بعيدًا عن عين الإعلام وبعيدًا عن أي مساءَلة مستقبلية، وهذا ما حدث خلال أيام عديدة وقت الحرب وفي مناطق عديدة من قطاع غزة.

إنه لمن الحقّ الأصيل منح الصحافيين المستقلّين وكافة وسائل الإعلام الدولية حريّة الوصول للتغطية الإعلامية في مكان الإبادة الجماعية لضمان تغطية موضوعيّة، وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني، وحماية المدنيين.

إن الحَظر الإسرائيلي المُستمرّ -حتى ما بَعد الهدنة -على دخول الصحافيين الأجانب إلى غزة، إنما هو كفيل بحجب الجرائم، ويزيد من الكارثة التي حلّت على كلّ بيت وأسرة في القطاع.

صَدمة الحَرب في غزة، قد أدّت إلى حَجب الحَقائق

قال غوتيريش[2] "إن منع الصحافيين الدوليّين من دخول غزة يسمَح بازدهار المعلومات المضلّلة والروايات الكاذبة"، وقد نوه في السياق ذاته إلى أن "حرب المعلومات التي أضيفت إلى صدمَة الحرب في غزة، قد أدّت إلى حَجب الحقائق"، وهذا هدف حقيقي للاحتلال الإسرائيلي يتمثّل بحجب الحقائق والجرائم الإنسانية. وفي السياق ذاته، وبقصد تغييب الرواية الفلسطينية وتغليب الإسرائيلية، قام الاحتلال بترتيب جولات تغطية إعلامية بمرافقة الجيش، لأماكن محدّدة، مع ضَبط كيفية نشر كافة المعلومات، وهذا لم يحدث من قبل. كما رفضت المحكمة العليا للإسرائيلية طلبًا تقدّمت به رابطة الصحافة الأجنبية في القدس للسماح بدخول الصحافة الأجنبية، وكانت حجة الرفض "المخاوف الأمنية"، ما يُعدّ انتهاكًا سافرًا وصفعة في وجه الصحافة الحرّة وانتهاكًا لحرية الصحافة مستمرًا ومتواصلًا ومتعمدًا.

قَصف وتدمير مقرّات الوكالات الأجنبية والمحليّة والمكاتب والمؤسسات الصحافية بالعدّة والعَتاد، وتدمير الاتّصالات ومقاسِم الإنترنت

 لمنع وصول الصورة كلّها للخارج، ظل جيش الاحتلال يمارس محاولات حثيثة في فترة الإبادة الجماعيّة، وهو بذلك يزيد من عُمق التحدّيات ويجعل التّغطية الإعلامية تعجيزًا لمَنع الصورة والخبر والمعلومات من ساحة الحرب، يتكتم على الحقيقة ويزيد من الصعوبات والتحدّيات، فكيف يُمكن لإعلامي نازح مُجبر على مواصلة العمل وقد فقد مكتبه وعائلته وأقاربه وأمنه وهدوءه وعلاقاته الاجتماعية، وقدرته على الوصول للإنترنت وقدرته على الاتصال حتى داخل غزة، كيف يمكنه تغطية الجرائم المُرتكبة بينما هو في حالة من التشتت والتقطّع والذّبح المتواصل له ولأبناء شعبه؟ لقد عمد الاحتلال لإبادة الأمن المهني والأمن الشخصي مع التركيز على استهداف الصحافيين، فقد أصبحوا متأكدين بالدليل القاطع أن الدرع والخوذة الصحافية ليست مدلولًا على الحماية بقدر ما أصبحت مدلولًا على الاستهداف والتربّص للقتل! لقد نالت حرب الإبادة الإعلامية من أمان وأمن ومساحة الإعلامي الخاصة وجعلته يعاني وحيدًا بلا امتداد مؤسساتي مهني دولي وبفقدان مخيف لأيّ مدلولات قانونية للحماية، وفي الوقت ذاته، ورغم كلّ ذلك، واصل الصحافي والصحافية الفلسطينيَّين في غزة نقل الوقائع ومجريات الحرب والمجازر وتعرّضوا للخطر المحدق وقَتل الكثير منهم، لقد كانوا عَين العالم على غزة في الإبادة وجسورًا لكل القنوات العربية والدولية، ولولاهم لما كانت هنالك أيّ تغطية إعلامية. 

استهدافُ وقَتل الصَحافييّن وعائلاتهم، والتّهديدات المتواصلة لعددٍ كَبير لمَنعهم مِن استكمال مهمّتهم

فَقَدت الحَركة الصحافيّة الفلسطينية 205 شهداء وشهيدات من الصحافيين والصحافيّات، وقد تم قتلهم بتقصُّد، إما أثناء أدائهم عَمَلهم بالتغطية الإعلامية للإبادة الجماعية، وإما في بيوتهم ومَع عائلاتهم، وإما أثناء تنقّلهم ونزوحهم مِن مكان إلى آخر، لقد كان اغتيالًا لإسكات أصواتهم أمام المستشفيات وأمام الخيم وفي المَيدان، وسبقت ذلك حملة تَحريض وكراهية لم يسبق لها مثيل شهدناها جميعنا من بداية الإبادة الجماعية، كما تعرض للإصابة ونجا من القتل المحقّق ما يقارب (400) من الصحافيين والإعلاميين والإعلاميات، بعضهم لا يزال في حالة حَرجة، وبحاجة للعلاج خارج غزة.

اعتقالُ الصحافييّن ونَزع الصفة المهنيّة والإنسانية عنهم لتسهيل استهدافهم

تعرض الصحافيون منذ بداية الحرب للاعتقال، بعضهم منذ اليوم الأول، وكانت هنالك العديد من التصريحات التي تعمدت نزع الصفة الإنسانية والمهنية عن الصحافي الفلسطيني تسهيلًا لجعله هدفًا للقتل والاستهداف، ولم تكتف بعض الجهات الإسرائيلية بإنشاء صفحات بصور بعض الصحافيين والإشارة إلى كونهم أصبحوا في دائرة الاستهداف، بينما هنالك 48 صحافيًا تم اعتقالهم وهم فقط من عُرفت أسماؤهم ولا يزالون في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

تدمير المَكاتب الصحافية وتَدمير الكاميرات وأجهزة البثّ ما أدى لنقص المعدّات الصحافية بشكل عمديّ مخيف

لقد تمّ استهداف المكاتب الصحافية والمؤسسات الإعلامية في كلّ أنحاء قطاع غزة، وهذا خَلَق تحديات قاسية وجسيمة للصحافيين الفلسطينيين ولم تكن أمامهم خيارات، فالحصار المطبق وإغلاق المعابر ومنع دخول أو تحديث الكاميرات والمعدات وحتى السماح بإدخال دروع صحافية وخوذ صحافية، ما جعلهم يضّطرون للعمل في ظروف قاسية جدًّا، هذا بالإضافة إلى استهداف بنية الاتصال والإنترنت وخَلق تحدّيات فائقة في التنقل والمخاطرة للوصول لأماكن يمكنهم فيها تحميل موادهم الإعلامية، وهذا لم يكن متوفرًا بشكله الطبيعيّ، رغم جهود العديد من الجهات الإعلامية ونقابة الصحافيين إلا أنه لم يكن كافيًا نتيجة الضغط والطلب من كافة الصحافيين.

لقد بَرَزت جهات دولية إعلامية، وغيرها حقوقيّة داخل أو خارج غزّة وحاولت حَصر الأضرار وتقريب الدمار والإبادة التي أصابت الجسم الصحافي الفلسطيني إلا أنني أعتقد أنه من الواجب الآن مع دخول الهدنة حيز التنفيذ المطالبة بضرورة إدخال لجان تحقيق دولية وإعادة تحديث عاجل لحجم الإبادة الإعلامية وحصر التدمير الشامل والجزئي لكل مكونات المشهد الإعلامي في قطاع غزة.

خِطاب الكَراهية والتّحريض ضِد الصحافيّين الفلسطينيّين، وإغلاق صفحات "السوشيال ميديا" وَفرض الرّقابة الصّارمة

لقد رُصدت أكثر من 5100 حالة رقابة رقميّة على المحتوى المؤيّد للفلسطينيين بين 7 أكتوبر 2023 وأيلول 2024، وكان بين المتضرّرين من هذا الأمر 150 وسيلة إعلام، وذلك وفقاً لتقرير نشره "المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي"[3] وهنالك العديد من التقارير التي تُشير إلى خطاب الكراهية.

ادّعى جيش الاحتلال الإسرائيلي أثناء الحَرب، أن ستّة صحافيين من شمال قطاع غزة، يَعملون في قناة "الجزيرة"، ينتمون إلى "كتائب القسام"، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية «حماس»، و"سرايا القدس"، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي،[4] وبشكل واضح ومباشر[5] تم التحريض على الصحافيين في غزة وبالأسماء والصور، ولم يتوقف التّحريض طيلة فترة الحرب، وهذا التّحريض بَلَغ ذروته في حرب الإبادة الجماعية على صحافيي قطاع غزة، وهو أيضًا أمر لم يسبق له مثيل في مقاربات لحروب أخرى، إذ دومًا هنالك مساحة لحماية الصحافيين واحترام دورهم وصونه في تغطية الحروب وإبراز الحقائق للجماهير.

وفقًا للمادة 8 من ميثاق المحكمة الجنائيّة الدوليّة، فإن "استهداف المُراسلين الحربييّن أو الصحافييّن العاملين في مناطق الحَرب أو الأراضي المحتلّة، بالقتل أو الاعتداء المتعمّد عليهم جسديًّا، يعدّ جريمة حَرب".

وعلى الصّعيد الدولي، لم تتوقف الماكنة الإعلامية الإسرائيلية عن تكذيب كلّ ما يمثّل الرواية الفلسطينية لدرجة التشكيك بأرقام الضحايا الصادرة عن وزارة الصحّة الفلسطينية بهدف التلاعب بعقول الجماهير في الخطاب الدولي، كانت هذه الحرب الإعلامية على أشدّها وحاصرت الفلسطينيين صحافيين وأطباء ورجال دفاع مدنيّ وفاعِلي مجتمع مدنيّ وتمترسَت خلف حجب رواية الآخر أو تكذيبها وتشويهها مع ضخّ معلومات مضللة وكاذبة طيلة الوقت وسَلخ الفلسطيني عن إنسانيّته وعن مهنيّته وعن وجوده ليتسنى لهم تسهيل استهدافه وقتله دون مساءلة أو محاسبة!

لقد أشارت[6]مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنيّة بحريّة الرأي والتعبير، أيرين خان، صراحة إلى أن أزمة غزة أصبحت بالفعل أزمة عالميّة لحرية التعبير ستكون لها تداعيات كبيرة فترةً طويلة. ونبّهت المقرّرة الخاصة المعنيّة بحرّية الرأي والتعبير إلى أنه "لسوء الحظ، هناك نوع من الهستيريا، إذا جاز التّعبير، تسيطر على الولايات المتحدة بشأن هذه القضية". وقالت إن المقرّرين الخاصيّن رصدوا تحيزًا ضدّ الدعم المؤيد للفلسطينيين على مواقع التواصل الاجتماعي.

كما استشهدت بما تمّ رصده على منصّات التّواصل الاجتماعي التابعة لشركة "ميتا" على سبيل المثال- التي تضم موقع "فيسبوك"- حيث "قام مجلس الرقابة التابع للشركة بالتنبيه إلى أن "ميتا" لا تتعامل مع الخطاب المؤيّد لإسرائيل وذلك المؤيّد للفلسطينيين بالطريقة نفسها"، وأضافت خان "هذه كلّها رسائل سيّئة جدًا لحرية التعبير". وشدّدت على الحاجة لضمان حرّية التعبير التي تعدّ حقًّا أساسيًّا ومهمًّا للديمقراطية، والتنمية، وحلّ الصراعات، والمفاوضات، وبناء السلام، وقالت: "إذا ضحّينا بكلّ هذا الأسباب، وقُمنا بتسييس هذه القضية برمّتها وحاولنا تقويض الحقّ في حرّية الاحتجاج والتجمّع السلمي والحقّ في حرّية التعبير، فأعتقد أننا نتسبب في ضرر سندفع ثمنه غاليًا".


[1] https://www.instagram.com/reel/DD2SWYjNokZ/?igsh=cm1vc3hpNnVweWs5

https://www.youtube.com/watch?v=k5VoCMFL8N4 

[2] في تغريدة عبر حسابه على موقع إكس

[3] تقرير المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي "حملة" أيلول/ سبتمبر 2024 بعنوان: "الحقوق الرقمية الفلسطينية في سياق الإبادة الجماعية ومسؤولية شركات التكنولوجيا الكبرى بعد عام من الحرب على غزة".

[4] https://ar.timesofisrael.com - 24 أكتوبر 2024.

[5] https://www.alquds.co.uk// القدس العربي.

[6] 24 نيسان 2024 حقوق الإنسان https://news.un.org/ar/story/2024/04/1130326

(استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]).

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

رأيك يهمنا