إغلاقُ "الجزيرة".. مَن يَحجُب مَن؟!

مع بروز دَور الإعلام، تحوّل العالم إلى قرية صغيرة، وكُسرت معه الكثير من القيود الجغرافية والأبعاد السياسية التي كانت تشكّل واحدة من أهم القيود أمام انتقال المعلومة أو حجب المعرفة وفقًا لمنظور النظُم السياسية الدكتاتورية التي ترى في الجمهور قطيعًا تريد أن تسيره وفقًا لمنظورها وأهدافها مِن السيطرة وفرض الرؤى عليه. لكن من المفارقات العجيبة أن هذه الأُسس والمعايير والمحددات التي كنّا ندرّسها لطلبة الإعلام في أولى خطواتهم باتجاه الفضاء المفتوح، ما زالت تعشّش في ذهنية النُظم ذاتها على الرغم من تحوّل الكثير من الأدوات والمنهجيات والمنصات التكنولوجية التي باتت تكسر كلّ القواعد التقليدية منذ سنوات طويلة. السؤال الذي يطرح نفسه: كيف لمنهجيات السيطرة القديمة ذاتها أن تبقى فعّالة حتى ما بعد كلّ هذا الاختراق المعلوماتي في عصرٍ بات فيه الفضاء مفتوحًا؟ بل نحن أمام سيطرة التكنولوجيا بمساحاتها ومنصاتها بما فيها الذكاء الصناعي الذي بات يعيد تعريفّ كلّ شيء حتى تلك المفاهيم التي تعشّش في عقول نظم الهيمنة والاستعمار.

تمثّل الحرب على غزة واحدة من المحطات التي ستسجّل بمسيرة وسيرورة الإعلام أبرز ملامحها، ليس فقط لأنها حرب جَعلت من معادلة الإنسانية ومفاهيمها ومبادئها وقيمها على المحكّ، وليس لأنها أيضًا وضعت معايير الحقوق والحريات في زاوية بعيدة عن تلك التي بنيت عليها ما بعد حالة التنوير الأوروبي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بل أيضًا لأن الطفولة التي كانت تنتظر من يعلّمها أبجديات الحياة تغيّرت، فلم يعد الطّفل بانتظار والديه ليعلماه مخارج الحروف أو لفظ المصطلحات العربية أو الإنجليزية، أو يربيانه على مبادئ التوجهات السياسية أو الفكرية التي يعتنقانها، بل لأن الطفل اليوم هو أصبح من يقود والديه لنقاشات أبعد بكثير مما كانا ينظران لها حتى بعد كلّ سنوات عمرهم من التجارب والمعارف والخبرات. فالحدَث يفرض نفسه ويعيد تعريف كلّ شيء حتى نحن كتابًا ومحللين بتنا أمام اختبار وتحدي القدرة على الفهم بطريقة أسرع مما اعتدنا عليه سابقًا.

ما طُرح سابقًا، يجعلنا نستذكر إصدار قرار سلطات الاحتلال حجب قناة "الجزيرة" وإغلاق مكاتبها ومَنع طواقمها العاملة في فلسطين، وكذلك الحال القرار الذي طُبِّق أيضًا من قِبَل السلطة الفلسطينية بالضفة الغربية، كواحد من القرارات التي يمكن نقاشها في إطار حجب المعلومة والمعرفة عن الجمهور ومحاولة تمرير الرواية الإسرائيلية بما يخدم التوجّهات السياسية في هذه المرحلة ضمن إعادة هندسة الأهداف التي يعمل الاحتلال على تحقيقها.

يبقى السؤال الأهم في هذا النقاش: ما المعايير المحدّدة لحَجب "الجزيرة"؟ وما تأثيرات الحَجب فعليًا على الجمهور؟ هنا يمكن أن ننطلق من فكرة الفضاء المفتوح، وتعدّد مصادر المعرفة، والوعي التراكمي الذي بات يشكّل السمة الأبرز في العقد الأخير، فلا الوسيلة بقيت بالوظيفة ذاتها، ولا المتلقّي بقي حبيسًا للقنوات والوسائل ذاتها، فمجرد كبسة زر واحدة تتجول أصابع الجمهور لتجوب الشرق والغرب بما يفيض من معلومات تاركة المتربّصين بهذه القنوات جالسين خلف مقاعدهم يبحثون كيف سيتخذون قراراتهم التي لن تعود بالتأثير ذاته كما كان في السّابق.

فإن كانت واحدة من المعايير التي تقوم عليها قرارات الحجب هي تعطيل التأثير الذي يمكن أن تتركه منصة إعلامية بحجم "الجزيرة"، فهذا يعطيها قوة لا ضَعفًا، فمن لم يكن يرغب بمشاهدة شاشتها أصبح يتلهّف للبحث عنها إما كنوع من تحدي صاحب النفوذ، أو إصرارًا على إثبات فشل المنهجيات التقليدية في تحييد عقول الجماهير، أو حتى استئناسًا بالنقاشات التي بدأت تدور وتتسع أكثر فأكثر حولها، وهذه واحدة من التي ساهمت في منح "الجزيرة" قوة مضاعفة منذ بداية انطلاقتها الإعلامية، فتجربة تغطيتها للحرب الأمريكية على أفغانستان، والحرب على العراق، والانتفاضة الفلسطينية الثانية ومحطات الربيع العربي، وغيرها الكثير من التجارب، جعَلت من قدرتها على التحدي أكبر بكثير من قدرتها على الاستسلام لواقع يُراد لها أن تسير وفقه. وهو ذاته أيضًا الذي بات يجعل منها كقناة عربية وعالمية أن تبدع في استقطاب العقول والاستثمار فيها لتعيد صياغة منهجيات الإعلام الجديد وأدواته، أكان ذلك من خلال المضمون أو أشكال العرض وإيصال المعلومة. حتى في عصر هيمنة منصات التواصل الاجتماعي الحديثة أمثال "فيسبوك" ومنصة (X) التي كانت تسمى تويتر سابقًا، انطلقت "الجزيرة" في تقديم منصتها "الجزيرة 360"، لتعطي انطباعًا وحضورًا يجعلها تعيد تعريف معايير المنع أو الحذف. هي التجربة ذاتها التي اتقنتها "الجزيرة" في محطات متعددة وتمكّنها بالمستوى ذاته من أن تتخطى تجربة الإغلاق والحجب من قبل الاحتلال الإسرائيلي، فعند منع المراسل من الوقوف أمام الشاشة في رسالته الإعلامية، يصبح الجمهور كلّه مراسلًا للقناة يزودها بكمّ كبير من المعلومات والصور المباشر.

وليست هذه القدرة فقط في المنظور التقني والفنيّ، بل تتعداه للمفهوم السياسي، صحيح أن القناة تنطلق من محيط وبيئة سياسية توفر لها كلّ مقوماتها، لكنها أيضًا تحرّرت من هذه التبعية التقليدية، وأعطت الحيّز الجغرافي الذي يحتضنها ممثلًا بدولة قطر واحدة من أهم أدوات التأثير على النطاق السياسي ليس في المنطقة العربية، بل بالعالم، فمن لم يكن يعرف قطر تلك الدولة الصغيرة بجغرافيتها أصبح يُلامس حجم تأثيراتها وتدخلاتها في قطاعات تجاوزت حتى المجال السياسي إلى الاقتصاد والطاقة والرياضة والفن وغيرها الكثير الكثير.

هنا في الختام، نعود للنقاش الجدليّ ذاته: إن كان الواقع المتغيّر بحجم هذا التسارع في أحداثه ومعطياته لم يعد يعطي مساحة التفكير ذاتها للنمط التقليدي الديكتاتوري للنظم السياسية في التحكم بالمعلومة وكيفية تأثيرها، هل بإمكان الأدوات والمنهجيات ذاتها أن تكون مانعًا أمام الجمهور في الوصول إلى المعلومة التي يبحث عنها؟ وتبقى الإجابة التي تراهن عليها الجزيرة ومثيلاتها من مئات، بل آلاف المنصات والشاشات الإعلامية تدور في إجابة واحدة ووحيدة، من يحجب من؟!

سليمان بشارات

باحث وإعلامي ومحاضر أكاديمي، مدير مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، نشر له العديد من الدراسات البحثية المحكَّمة، مستشار للعديد من مؤسسات المجتمع المدني في قطاعات مختلفة، شارك في نشر عدد من الكتب في مجالات الإعلام والسياسة.

رأيك يهمنا