صَدْمَة الوَعي بالحَقيقَة
![](/images/large/ZtkOZscZ6jN8lEQek83i8Z9VMnEGutWWUzUoGtjW.jpg)
في القَرن الخامس قَبل الميلاد، قال المؤرخ اليوناني ثيوسيديدس: "القويّ يَفعَل ما يُريد، والضّعيف يُعاني كما يَجِب".
لا تزال هذه المَقولة صحيحة حتى اليوم، وسَتَظل صحيحة طالما هناك بشرٌ على وَجه الأَرض، ذلك لأنّها مرتبطة بطبيعة البَشر التنافسية المدعومة بالوعي الزائف المتكئ على أنانيّة الغريزة. فالقوي المتجبِّر يَلجأ إلى البطش والقمع لأنه لا يَحتمل الاعتراف بأنه لا يملك الحقيقة التي يدَّعيها لنفسه، والضعيف المَنكوب يَلجأ إلى كلّ الوَسائل المُتاحة لأنه لا يحتمل الاعتراف بضعفه في تدعيم الحقيقة التي يدّعيها لنفسه.
هناك طَرَف ثالث لهذه المعادلة، ألا وهو طَرَف الضعفاء غير المَنكوبين حاليًّا، الذين يتطلّب التاريخ منهم أن يُجيروا الضّعيف المنكوب، لكنّهم لا يستطيعون ذلك (لأنهم غارقون في زَيف رفاهيتهم ومصالحهم الذاتية)، وكوسيلة للخروج من هذا المأزق، فإنهم يتقرّبون من القويّ فيزداد قوّة وبَطشًا، ويعينون الضّعيف على الخروج المؤقّت من نكبته فيزداد ضعفًا وانتكابًا.
فالصراع إذًا هو في المُحصِّلة صراع على الحَقيقة التي يدَّعيها كلُّ طَرَف، لأسباب مختلِفة نابعةٍ من التّأويل الانتقائي للتاريخ وما يرتَبِط بذلك من إيديولوجيات.
والصراع على الحقيقة هو في حقيقة الأَمر صِراع على الحقّ في احتكار مصادر القوّة من أجل تكريس الذّات ونَفي الآخر.
وحيث أن كَسب الصّراع على هذا الحقّ لا يتحقّق إلا بتقويض حقّ الآخر، وحق الآخر يُنظَر إليه دائمًا على أنه مسأَلةُ ادعاء لا أَكثَر، فإن كسب هذا الصراع دائمًا ما يؤدي إلى بطش القويّ بالضعيف وقمعه وقتله وتدميره وحتى إبادته، في محاولة للقضاء على ادّعاء الضعيف الذي يؤمن القويّ بأنه يتنافى مع "حقيقته المُطْلقة".
مِن هنا يَأتي التّزاوج الحَتمي بين القوّة والحقيقة، فالقويّ المتجبّر هو صاحب الحقّ والحقيقة، أمّا الضّعيف العاجز فليس له حقّ ولا حقيقة (أما الضعيف المُقاوم فهو الضعيف الذي يرفض أن يعترف بأنّه لا حقّ له).
وعليه، فإن "القوة الخشنة" (أيّ القوّة العسكرية القائمة على القمع والقتل والتدمير) لا يمكن أن تستَغني عن "القوّة الناعمة" (أيّ القوة الإعلامية القائمة على الإقناع وتشكيل الرأي العام)، فالقوة الثانية تضفي الشرعيّة على الأولى وتُقنع الرأي العام بأن الادعاء بالحقّ ليس مُجرّد ادعاءٍ إنما هو الحقيقة، وبهذا فهي تحوِّل الادعاء بالحقّ إلى حقيقة بينما تنفي حقّ الآخر في ادّعاء الحقيقة.
الوجه الآخر لهذه العُمْلة هو أن الجهات المُمارِسة للقوّة الناعمة (وسائل الإعلام) لا يمكن أن تكون مستقلّة تمامًا عن الجهات الممارسة للقوّة الخشنة (القُوى السياسية والعسكرية للدول وأنظمة الحكم)، وليس من الممكن أَن تكون الأولى غير مُرتبطة بالثانية، إن كان ذلك من قريب أو من بعيد، فهي إما مملوكة من قبلها، أو تابعة لها، أو مُجيّرة لغاياتها، أو متعاطِفة معها، أو – في أحسن الأحوال – خاضعة لشروطها وأحكامها وتقييداتها.
وبالنتيجة، فإنه ليس هناك إعلام حُرّ، ولا حتى في أكثر الدول تحرّرًا وديمُقراطية. فوسائل الإعلام تكون دائمًا خاضعة للجهة التي تموِّلها، وإذا تغيَّر المُموِّل تغيَّرت سياسة وسيلة الإعلام تبعًا لذلك. فالقنوات التلفزيونية، على سبيل المثال، لا يمكن أن تعطيك خبرًا عمّا يحدث في الواقع دون أن تُحيله إلى وسيلة للتأثير عليك وإقناعك بوجهة نظرها وبالتالي تَشكيل رأيك بخصوص ما يحدث، إن كان ذلك بالتّعليق أو التّحليل أو الحوار، أو بمجرد السّياق الذي يوضع فيه الخَبَر، أو باختيار الكَلمات والمُصطلحات، أو بالتّلاعب بالصّياغة الإِنشائيّة للخبر، أو حتى بتعابير وجه المذيع/ة أو الأشخاص الحاضرين في الأستوديو.
ولقد أدرك الإنسان العاديّ البَسيط عَبر تاريخ النُّظُم السياسية الجمعيّة على مختلف أشكالها، بأنه مجرّد مادّة هلامية للتلاعب والتّشكيل والتطويع، وللحشد والتجنيد لقضايا الجَبابرة الكِبار. ولكن الإنسان العادي البَسيط ربما لم يَشهد عبر التاريخ البشريّ كلّه مثالًا على عجزه وعبثيَّته واضمحلال قيمته أكثر وضوحًا مما جرى من أعمال وَحشية على أرض فلسطين منذ السابع من أكتوبر عام 2023. فلقد انهارت أمام تلك الانتهاكات كلّ المُثل والمثاليات، وانفضحت كلّ الهرطقات المُغرضة والنوايا الخبيثة، وأميط الّلثام عن العلاقة اللاإنسانية بين قوّة البطش وامتلاك الحقّ في احتكار الحقيقة، فأصبح الإنسان العادي البَسيط يشعر بأنه ليس إلا مجرّد حَصوة على الطريق الترابيّة التي تَسير عليها عَجَلة التّاريخ الباذخة. وأكثر مَن أُصيب منّا بفجيعة العبثيّة والعَجز المُطلق هم أولئك الذين لم تَخطر على بالهم قطّ إمكانية أن تكون المُثل والمثاليات الإنسانيّة الرفيعة محصورة في عِرق واحد دون غيره، أو في إطار واحد فقط من أُطر الانتماء الحضاري.
ونحن الفلسطينيين العرب الذين نَعيش في بَطن الغول، نَرى بأُم أَعيُننا ما يرتكبه الغول مِن انتهاكات وموبِقات، في حين تَنهمر علينا أشلاء الضحايا التي يلتهمها ذاك الغول بمنتهى الصّفاقة، ومع ذلك فإننا نُرغَم بالقوة على أن نتماهى مع الغول ونُدين ضحاياه، بينما نحن غير قادِرين على أن نفعل شيئًا سوى الكفاح في صَمت كيّ لا نتحلّل كليًّا ونَذوب في بطن الغُول حدّ الاختفاء.
ومَع أننا نحن أبناء النّكبة والضّياع، فإننا في حقيقة الأمر نُعاني من مضاعفات صدمة الوَعي بالحقيقة؛ حقيقةِ عجزِنا وعُقمِنا وتفاهة قيمَتنا في التأثير على موازين القوة ومُجريات التاريخ. ومِنّا مَن فقد توازنه وانهار في حضيض القُنوط، ومنّا من وضع المظلّة خارج الباب وانتظر حتى ينقشِع المطر وتَجفّ الطرقات، ومنّا من راح يبحث عن بدائل لتحقيق الذات والتأثير على مَجرى التاريخ بأيّ شَكل.
ولقد أصبحت القنوات التلفزيونيّة منذ فترةٍ وسيلةَ الإعلام الأَقوى لربط عامّة الناس بما يَحدث على أَرض الواقع لحظة وُقوعه. لكن على إثر صدمة الوعي الأخيرة، فقد سَئم النّاس (وبالأخص من أَفراد النشء الجديد) من إصرار القنوات التلفزيونية على التعامل معهم كمستهلِكين سلبيّين وكمادة خام للصقل والتطويع والتّشكيل... لقد سئم الناس من التّعليقات والتحليلات ومداخلات الخبراء والمختصين، وكلّ الاجترارات الكلامية المُغرضة التي تغلَّف بها الأحداث دون أن يأبه بها أصحاب القرار ومحدّدو مصائر البشر في الأعلى، وأخذوا يتساءَلون بمنتهى الجديّة: أليس من المُمكن أن يطَّلع الناس على حقيقة ما يجري على أرض الواقع دون أن يُسلب منهم الحقّ في التفكير الذاتيّ ومُراجعة التاريخ بأنفسهم؟!
ولِحسن الحظّ، كانت التكنولوجيات الحديثة ومنصّات التواصل الاجتماعي على الإنترنت توفّر هذه الإمكانية التي كان يتعطّش إليها المُصابون بصدمة الوعي، فأيّ إنسان في موقع الحَدَث يمتلك هاتفًا محمولًا يستطيع أن يُشغَّل آلة التصوير في هاتفه ويبثّ بالصوت والصورة ما يجري على أرض الواقع في لحظة حدوثه، دون أيّ تعليق أو تحليل أو فذلَكات لغويّة تصادر من المتلقّي استقلاليّته وتَسْلب منه حرّيته في إِعمال الفكر ومراجعة التاريخ وتشكيل مواقفه بقواه الشخصيّة.
ولقد أدرك بعض المتنوّرين من المُصابين بصدمة الوعي هذه العلاقة النفعيّة المتبادَلة بين وسائل الإعلام والمموِّلين، فقرروا تقويض تلك العلاقة من خلال رفض التّمويل من أية جهة رسمية، وبدلًا من ذلك الاعتماد الكلّي على المساهَمات التطوعيّة، الأمر الذي من شأنه أن يحفظ للمتلقّي حريّته في الفهم والتفكير ومراجعة الذات والتاريخ، وبالتالي تشكيل وعيه ومواقفه واتخاذ القرارات بنفسه، بمعزِل عن مراكز القوى التي تحتكر الحقيقة وتستَأَثر بمصادر القوّة التي تكرِّسها.
ولا شك أن منصة "فارءه معاي" الإلكترونية تنتمي إلى هذا النّوع الأخير من الإعلام الحرّ. وكون هذه المنصة قد استمرت واتّسعت بنجاح كبير في الأعوام الأربعة الأخيرة، وبالأخص في أَحلَك أيام الانفلات العنصري في العامين الأخيرين، لَـهو شاهد على أنها أنموذج لهذا التيار من الإعلام الجماهيري الحرّ، الذي يفتح أمامنا فُسحة فريدة من الأمل في تغيير مجرى التاريخ.
![](/images/small/4aMdlrKYrh22b9Lldn4k47QbjmfUgv5zX9GZ45OL.jpg)
د. مصلح كناعنة
باحث ومحاضر في مجالي علم الإنسان وعلم النفس. حاصل على شهادة الدكتوراه بامتياز في علم الإنسان من جامعة بيرغن في النرويج وله خمسة كتب وأكثر من 30 مقالة بحثية منشورة في مجلات عربية وعالمية