الصَّحافة العِبريّة: تَغطيات القَبيلَة تُودي بمَعايير المِهنَة
كَما في الأزمات والحُروب السابقة التي تخلّلها الصراع العربي والفلسطيني/الإسرائيلي تجنّد الإعلام العبريّ مرجّحًا كفّة هويّته القوميّة على الهويّة المهنيّة. لكن هذه المَرّة، ومنذ السابع من أكتوبر، بدا واضحًا أن وسائل الإعلام العبرية الرسمية وغير الرسمية قد شاركت في الحرب بشكل فعّال غير مسبوق من ناحية خِيانة منظومة القيم والمعايير المهنيّة، ومن ناحية المشاركة المُباشرة في التّحريض والتّهويش ضد الفلسطينيين ونَزَع الصّفة الإنسانية عنهم وشَيطنتهم مما يعني شَرْعنة المذبحة وقتل المدنيّين وجرائم التدمير والتهجير. هكذا كان سُلوكها في حروب سابقة على غزة ولبنان، لكن هذا المرة كانت أكثر قَبَلية ودموية وخيانة لقيم المهنة، وربما بسبب قوّة الصدمة الناجمة عن "طوفان الأقصى" الذي أفقد الإسرائيليين الثقة بالنفس والمستقبل لا بالحكومة والجيش فحسب.
تمّ ذلك في أوجه عدّة، منها وأخطرها الحضّ المُباشر على القتل العشوائيّ بدلًا من فضحه ومواجهته، لتَعارُض ذلك مَع روح المِهنة ومع القِيم الإِنسانيّة. بلغ ذلك أوجَهُ ليس فقط في قنوات يمينيّة تعتبر بوقًا لحكومة الاحتلال كالقناة 14 وصحيفة "يسرائيل هيوم"، بل في القنوات المركزيّة وعلى رأسها القناة 12 العبرية التي لم يتورّع مقدّم نشرة الأخبار المركزيّ فيها داني كوشمارو عن رفع بندقيّة رشّاشة في الأستوديو خلال تقديم نشرة الأخبار قبل شهور ملوحًا بها مُشجّعًا على العُنف والبلطجة.
كما شاركت وسائل الإعلام العبرية في خيانة "صاحِبة الجَلالة" بوسائل أخرى، وتورّطت بالمشاركة في مَقْتلة آلاف المدنيين الفلسطينيين باستضافة مراقبين ومحلّلين وجنرالات دعوا دون أن يرمِش لهم جَفن، ودون تحفّظ منها، لعدم التّمييز بين عساكر ومدنيين داخل قطاع غزة بدعوى أنهم كافّتهم سواء. بَرَز ذلك في استضافة القنوات العبريّة الأولى والثانية والثالثة مستشار الأمن القومي الأسبق الجنرال في الاحتياط غيورا آيلاند الذي قاد حملة الاستنكاف عن التمييز بين مدنيّين وعسكرييّن زاعمًا أن النساء والأطفال في القطاع هم "أمهات وزوجات وشقيقات وأولاد الإرهابيين". تكرّر ذلك في منابر التَلفزة العبريّة يوميًا، ولم يكن آيلاند وحيدًا، مثلما أن الصحف الورقيّة أيضًا نشرت هذه الأفكار وروّجت لـ "خطة الجنرالات" التي اعتمدها جيش الاحتلال خلال احتلالاته المتكرّرة لجباليا وبيت حانون وبيت لاهيا ومحاولاته القيام بتطهير عرقيّ لشمال القطاع. يضاف لذلك المشاركة في التهويل في ما قام به الفلسطينيون في مستوطنات "غلاف غزة"، خاصة ما يتعلّق بقتل الأطفال وقطع رؤوسهم في الأيام الأولى من الحرب، مما ساهم في مفاقمة شهوة الانتقام المفتوحة على مصراعيها في الشارع الإسرائيلي. هذا غَيض من الموجود في المنابر الإعلامية أما المفقود فهو لا يقلّ خطورة، حيث حجب الدّم الفلسطيني المسفوح عن الإسرائيليين الذين رأوا النّزر اليسير فقط من المذبحة ومن شلال الدم اليومي داخل القطاع في الأسابيع الأخيرة فحسب. في المقابل حالت السلطات الإسرائيلية دون دُخول صحافيين أجانب للقطاع، ووافقت على دخول بعضهم في مرّات نادرة، وفقط من خلال مرافقة القوات الإسرائيلية لهم دون فرصة حقيقيّة لرؤية الواقع وسماعه بعيونهم وآذانهم هم، وبشكل مستقل على غرار ما فعلته القوات الأمريكية في الحرب على العراق. حينما شاهد أحدهم تغطيات التلفزة لوقائع الحرب على جبهتيها الفلسطينية واللبنانية كاد أن يرى حربًا مغايرة عن تلك الجارية على أرض الواقع، نظرًا لحجب صور الشهداء والجرحى والأطفال المبتورة أعضاؤهم علاوة، على المشاهد المحجوبة للدمار الهائل وللحصار والتجويع. هذا المَوجود الخطير في المنبر الإعلامي الإسرائيلي مقابل المَفقود والمحجوب فيه شكّلا معًا صورة مزوّرة للواقع، وكلّ ذلك ضمن مساعي إخفاء حقائق تحرج الإسرائيليين وربما تدفع بعضهم للاحتجاج. يضاف لذلك انخراط وسائل الإعلام الإسرائيلية بشكل عام في عمليّة رفع معنويّات الإسرائيليين، باختيار أيّ مضامين وعناوين ومصطلحات وصور، وبتصميم طريقة عرضها وتحديد مواعيد النشر بالتنسيق مع الناطق العسكري.
يشار إلى أن محاولة المساهمة في رفع معنويات الإسرائيليين خلال الحرب، خاصة في الأوقات الصعبة بعد مقتل وإصابة جنود ومدنيين إسرائيليين، قد شهدت تحدّيات صعبة بسبب الثورة المعلوماتيّة وهيمنة "السوشيال ميديا" التي نشرت أحيانًا كثيرة ما حجبته وسائل الإعلام العبرية الرسمية والتقليدية. في التزامن، انخرط الكثير من الإعلام العبري في محاولة تهبيط معنويات الفلسطينيين واللبنانيين ضمن الحرب النفسيّة الرسمية والمعركة على الرواية وعلى الوعي التي اهتمت بها المؤسسة الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر.
شذّت عن هذا السرب وغرّدت بعيدًا عنه صحيفة "هآرتس" معظم أوقات الحرب منوهة للجرائم الإسرائيلية، خاصة داخل القطاع، ولحرب الإبادة، في تقاريرها ومضامينها ومجمل تغطياتها وفي مقالاتها الافتتاحية مرات عدّة. كانت "هآرتس" مختلفة تمامًا عن بقية القَبيلَة الإعلامية العبرية، ليس فقط التزامًا بروحها ومعاييرها الصحافية، بل من باب الرغبة بعدم تورط إسرائيل بجرائم تكرّس الصراع وتجعله غير قابل للحلّ بسبب تعميق الكراهية، وكي تبعِد إسرائيل عن كرسي الاتهام في محكمة الجنايات الدولية، كما قالت بنفسها في أكثر من مرة. من جهة أخرى انقسم الإعلام العربي في تغطياته بين مؤيد لـ "حماس" والفلسطينيين كـ "الجزيرة" و"الميادين"، ومَن كان أقلّ تحمُّسًا كـ "العربية" و"الحرّة" وغيرها، وهذا موضوع لمقال آخر.
(استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]).