حَربٌ على جبهة الِإعلام أيضًا

حرب غزة هي الحرب الوحيدة في العالم التي مُنعت تغطيتها إعلاميًا، فقد مَنَعت إسرائيل جميع وسائل الإعلام من الدخول إلى قطاع غزة لتغطية الحرب، واكتفت، في مرات محدودة، بإدخال صحافيين مع الجيش إلى أماكن معينة يختارها، لنقل بعض الصور والمقابلات التي غالبًا ما كانت تصبّ في خدمة الرواية الإٍسرائيلية حول الحرب، مثل تصوير أنفاق، وأماكن احتجاز رهائن وغيرها.

وسمحت إسرائيل في بعض الحالات لصحافيين إسرائيليين بإجراء مقابلات مع فلسطينيين من سكان غزة يعانون أثناء نزوحهم وهُم في حالة بالغة الصعوبة والبؤس، ولم يكن الصحافيون يسألون عن حياتهم وعن جرائم الجيش وممارساته، إنما عن مسؤولية حركة "حماس" عمّا جرى لهم.

واتّبعت السلطات الإسرائيلية أيضًا سياسة مدروسة هدفها السيطرة على التغطية الأجنبية، حيث وزّعت شرائط يومية من العمليات العسكرية في غزة، أبرزت فيها الجنود وأداءهم، وتجاهلت تمامًا استهداف المدنيين والبيوت، والبنى التحتيّة، والمشافي، وغيرها.

الإعلام العربي

مقابل الإعلام الإسرائيلي المُنحاز بصورة شبه مطلقة للسياسة والرواية الرسمية، عمل الكثير من وسائل الإعلام العربيّة المؤثرة على الرأي العام الفلسطيني والعربي على تغطية الجانب الآخر للحرب وهو تأثيرها الدمويّ التدميري على الفلسطينيين.

عملت بعض وسائل الإعلام الأكثر تأثيرًا -والتي لا تخفي انحيازها لحركة "حماس"- على تغطية رواية الحركة للحرب، ولم تقدّم من الحقائق الموضوعية ما يساهم في خلق رأي عام حيوي وواعٍ لأسباب هذه الحرب ومجرياتها.

تشترط بعض وسائل الإعلام هذه على العاملين فيها -وليس فقط تشجّعهم على- الانحياز المُطلق للخط الإعلامي الخاص بها.

المشكلة الكبرى في العالم العربي هي ضعف الصحافة المستقلّة، وانتشار الصحافة المسيّسة المموّلة من دول وجهات بالغة الثراء. ففي هذه المنطقة من العالم، هناك إمبراطوريات إعلامية بنيت على فكرة الإعلام الموجَّه الهادف إلى الهيمنة على سلعة الإعلام التي يستهلكها الجمهور لخدمة أغراض سياسية.

توجيه التفكير

يُردّد كثير من الناس في الشارع الفلسطيني والعربي آراء يسمعونها في وسائل الإعلام من محللين، بعضهم يطلق عليهم لقب "خبير إستراتيجي".

لكل وسيلة إعلام قائمة من المحلّلين الذين يتجاوبون خطّها السياسي، ويُطلِق عليهم البعض تندّرًا لقب "محللون حسب الطلب"، أو "محلّلو ما يطلبه المستمعون"، في إشارة إلى الانسياق مع وسيلة الإعلام المعنية، أو مع الشارع.

 وهذا بالطبع يختلف عن وسائل الإعلام التي تحتفظ بحدّ من المهنيّة، فتستضيف مجموعة منوّعة من المحللين الذين يقدم كلّ منهم رأيًا مختلفًا، ما يثير نقاشًا عقلانيًّا تنويريًّا في المجتمع، ويساهم في خلق رأي عام متنوّع ومتنوّر.

في تغطية أخبار السابع من أكتوبر، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتداعياتها، نجد أن وسائل الإعلام التي تهيمن على التغطية الصحافية قد عملت إلى حدّ كبير على تشكيل الرأي العام من خلال الأخبار والرسائل الإخبارية التي يقدمها المراسلون وآراء الخبراء والمعلّقين الذين تستضيفهم.

في الأيام الأولى للحرب، كان الكثيرون يردّدون وراء المحلل العسكري فايز الدويري معلومات عن قذيفة "الياسين" حيث قال إن القذيفة مؤلفة من عبوتين؛ الأولى تخترق الدروع فتفتح الطريق أمام الثانية التي تخترقها وتتفجر في داخلها وتقتل كلّ من فيها.

اعتمد الكثيرون تحليل السيد دويري أعلاه وبدأوا يعتقدون أن النصر سيكون حليفًا لحركات المقاومة في غزة التي ستدمّر كلّ الدبابات بواسطة هذا النوع من القذائف. إلى أن تبين في وقت لاحق أن الأمر ليس كما وصفه المحللّ المذكور الذي هيمن على الرسائل الإخبارية للقناة الأوسع انتشارًا طيلة الشهور الأولى من الحرب، وساهم في تكوين الرأي العام الفلسطيني في هذا الاتجاه.

إسرائيل تتفكَّك أم يعاد بناؤها؟

 بعد حادثة اقتحام عدد من قادة ونشطاء أحزاب "الصهيونية الدينية" معسكر "سديه تيمان" والمحكمة العسكرية الإسرائيلية في بيت ليد، بهدف إخراج مجموعة من الجنود المحتجزين قيد التحقيق بشبهة تعذيب أسير فلسطيني واغتصابه، وجدنا الكثيرين يرددون خلف بعض المحللين أن إسرائيل باتت تتفكّك من الداخل، وأنها تُشارف على الانهيار.

وكذلك الأمر في حالة اغتيال إسماعيل هنية وتعيين يحيى السنوار خلفًا له، حيث ردد الجمهور وراء عدد من المحللين عن مزايا ذلك لحركة "حماس" والشعب الفلسطيني، دون أن نسمع الكثير من الآراء الأخرى التي تحدثت عن الآثار السلبية لهذا التعيين على الحركة، وهي، أي هذه الآراء، موجودة ونسمعها حتى من داخل حركة "حماس" نفسها، مثل تراجع مساحة العمل السياسي أمام الحركة، واقترابها أكثر من معسكر إيران و"حزب الله" على حساب الدول والجهات الأخرى.   

تأثيرُ الجمهور على الإعلام

يبحث الجمهور الفلسطيني المكلوم والمظلوم والمطحون من الاحتلال الذي يؤيد المقاومة، عن الأخبار والتحليلات التي تدعم توجهاته، ويرفض أو يشكّك في الأخبار والتحليلات التي تذهب في اتجاه آخر، حتى لو كانت صحيحة، وهذا يؤثر بدرجة كبيرة على المراسلين وعلى المحلّلين الذين يقدم بعضهم تحليلات يحرصون على أن ترضي الناس أو ترضي المحطات المستضيفة، حتى لا يَضعوا أنفسهم في موقع غير المرغوب، وربما المَكروه والمشكَّك في انتمائه الوطني، وربما، بالنسبة للبعض منهم، كي لا يفقدوا المكافآت المالية المُجزية التي تقدّمها تلك المحطات.

هذا يؤثر بدرجة كبيرة على الصحافيين والكتاب، وتاليًا يضعهم في موقع المعزّز للأوهام، وهم يقودون تاليًا إلى الإحباط، لأن الحقائق التي تلي تحليلاتهم تكون على خلاف ما كانوا يروّجون.

وهذا يعيدنا إلى تجربة الانتفاضة الثانية، حيث امتنع المعلّقون والصحافيون عن إبراز الجوانب السلبية في تلك الانتفاضة، وبعد انتهائها بما حملته من نتائج، إنهالت التحليلات حول تلك السلبيّات وآثارها المدمّرة على القضية الوطنية.

حرّية السؤال

تقوم الصحافة على السؤال عمودًا أساسيًّا من أعمدتها، وفي مجتمعاتنا قد تجد الرأي العام أكثر دكتاتورية من السّلطة في محاربة السؤال وتحريمه وطنيًّا ودينيًّا.

فعلى سبيل المثال، جرت داخل حركة "حماس" نقاشات بشأن السابع من أكتوبر. أيّد بعض قادة الحركة ذلك، وبعضهم عارضه، لكن كثيرًا من الكُتّاب والصحافيين امتنعوا عن إثارة أسئلة حول هذه الخطوة خشية، أو مراعاة لمشاعر الجمهور الذي أيد هذا الفعل بأغلبية جارفة، خاصة في الضفة الغربية، رغم نتائجها وتداعياتها على أهالي قطاع غزة وعلى مصير الضفة الغربية. بعض الذين أثاروا أسئلة من هذا النوع على وسائل التواصل الاجتماعي تعرّضوا لاتهامات شنيعة ما ردع الآخرين عن التعبير عن رأيهم بحرّية.

الإعلام الغربي

أصابت تداعيات الحرب على غزة الإعلام الغربي أيضًا بأمراض لا تقلّ خطورة عن أمراض الصحافة العربية. فقد بلغت الأمور حدّ استخدام آلة الدعاية الإسرائيلية وسائل إعلام غربية لتمرير رسائل للجمهور، وخاصة للنّخب السياسية. ووقع عدد من الصحف الغربية العريقة ضحايا للدعاية الإسرائيلية.

بل بعضها نشر أخبار ًا مشكوكًا في صحّته عن الحرب وفدّمها على أنها حصرية، ويبدو أن جهات إسرائيلية وقفت وراءها. فقد سُرّبت، الكثير من الأنباء غير الصحيحة منها حول طريقة اغتيال إسماعيل هنية واليوم التالي لإدارة قطاع غزة، التي وصلت حدّ التضليل برأيي.

وفي موضوع اليوم التالي للحرب على غزة، نشر في وسائل الإعلام تلك العديد من التقارير والأخبار المنسوبة إلى مصادر مجهولة، منها أن دولًا عربية تَعِد، بالتعاون مع شخصيات فلسطينية، مثل رئيس الوزراء الأسبق الدكتور سلام فياض، والمسؤول السابق في حركة "فتح" والسلطة الفلسطينية محمد دحلان، لتولي إدارة قطاع غزة، وأن العديد من الدول أبدت استعدادها لتمويل الإدارة الفلسطينية الجديدة، ونشر قواتها في القطاع لحفظ الأمن.

وبعد البحث، تبين أن الحكومة الإسرائيلية التي تواجه معضلة حقيقية في مسألة اليوم التالي للحرب على غزة، ويُوجِّه لها قادة المؤسسة الأمنية والخصوم السياسيون انتقادات حادة لعدم وضع خطة للخروج من رمال غزة بعد الحرب، تبحث عمن يتولى هذه المهمة بعيدًا عن وحدة الكيانية السياسية التي تمثلها السلطة الفلسطينية، رغم ضعفها وهوانها، وأنها؛ أي إسرائيل، تقدّم هذه الاخبار عبر وسائل الإعلام هذه، على شكل بالونات اختبار تهدف إلى خلق نقاش بين الفلسطينيين بشأنها.

 فعلى سبيل المثال، أكد الدكتور سلام فياض، وبما لا يقبل الشكّ، أنه لن يقبل القيام بأي دور في قطاع غزة، ومع أية جهة أخرى سوى السلطة الفلسطينية، ليس لأنه معجب بالسلطة الفلسطينية، كما قال، وإنما لأنه يدرك تمامًا المرامي الإسرائيلية من وراء مثل هذه الخطط، والمتمثلة في فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وضرب وحدة الكيانية الوطنية الفلسطينية. وكذلك الأمر فعل محمد دحلان الذي قال في اللقاءات الخاصة: يريدون أن يسلّموني كومة حجارة، وهذا ما لن أقبله، في إشارة إلى قطاع غزة الذي دمّرته إسرائيل. 

"السوشال ميديا"

بدأت "السوشال ميديا" بصفتها منصة تعبيرية فردية، ثم سرعان ما سيطرت عليها المؤسسات الإعلامية الكبرى، وأخذت في توجيهها بما يخدم خطّها الإعلامي. وتوظِّف العديد من وسائل الإعلام موارد مالية ومهنية كبرى للسيطرة على أوسع مساحة ممكنة من منصات "السوشال ميديا".

تظهر نتائج استطلاعات الرأي العام أن الغالبية العظمى من الشباب في فلسطين، شأنهم في ذلك شأن الشباب في العالم العربي، تعتمد على "السوشال ميديا" مصدرًا أولًا، وأحيانًا مصدرًا وحيدًا للأخبار، وهذا يجعلهم عرضة لستة أنواع من التأثيرات السلبية: أولًا، الأخبار والتعليقات الشعبوية سواء كانت مكتوبة أو مصوّرة (فيديوهات)، وثانيًا، بعض المحتوى الذي تقدمه وسائل الإعلام الكبرى، وثالثًا، الأخبار المزوّرة أو ما يسمى (fake news)، ورابعًا، الأخبار الدعائية الموجهة من جهات سياسية وعسكرية، وخامسًا، سياسة الحجب الذي تمارسه هذه المنصات ضد المحتوى الفلسطيني، وسادسًا، تأثير الصورة، خاصة المظاهر المسلّحة، على الجيل الجديد الشاب الذي ينساق وراء تقليدها دون حساب العوامل الأخرى، ومنها وجود احتلال متأهب لاغتيال وتصفية كلّ من يحمل السلاح حتى لو لم يشكّل أيّ نوع من الخطر عليه.

فيديوهات التك توك

وبيّنت تحقيقات وتقارير صحافية أن الكثير من الشباب، خاصة في شمال الضفة الغربيّة، تأثّر بدرجة كبيرة بفيديوهات النشطاء في المجموعات المسلّحة خاصة على منصة "تك توك". وعّبر العديد من الشباب، في مقابلات صحافية، عن درجة كبيرة من التأثر بالشباب المسلّحين ورغبة كبيرة في تقليدهم والسير على دربهم. فقد مثّل لهم هذا الطريق طريق الرجولة والوطنية بأسمى معانيها.  وتحول بعضهم إلى نجوم على منصة "تك توك"، لديهم مئات آلاف المتابعين، وأخذ الكثيرون يتناقلون صورهم وفيديوهاتهم ويعيدون نشرها مرفقة مع أغانٍ حماسيّة، وأصبح حمل السلاح وركوب الدراجات النارية أسمى أمنيات الكثيرين من الشباب صغار السنّ، معتبرين ذلك أعلى مثال للرجولة والعمل الوطني، دون إدراك للتوابع والمخاطر.

مشكلة عالميّة

ليست "السوشال ميديا" مشكلة فلسطينية، بل هي مشكلة عالمية. في بريطانيا التي شهدت في آب/ أغسطس 2024 أعمال شغب واسعة جراء مهاجمة مُهاجر مدرسةَ رقص للأطفال، وقَتْل ثلاثة منهم طعنًا، استدعى عدد من أعضاء البرلمان صاحبَ منصة "اكس" (تويتر سابقًا) ألون ماسك لاستجوابه حول دور منصّته في التحريض على أعمال العنف الواسعة التي شهدتها البلاد عقب تلك الحادثة.

وقالت النائبتان عن حزب "العمال" البريطاني تشي أونوراه، وداون بتلر، اللتان تتنافسان على رئاسة لجنة العلوم والابتكار والتكنولوجيا في البرلمان، في تصريحات للنسخة الأوروبية من صحيفة "بوليتيكو"، إنهما ستضغطان على مالك شركة "إكس"، وغيره من المسؤولين التنفيذيين في قطاع التكنولوجيا، للإجابة عن أسئلة بشأن دور منصات التواصل، وسط الاضطرابات المتزايدة في بريطانيا.

وقالت المرشحتان للجنة إنهما ستضغطان من أجل المزيد من الشفافية من جانب منصة "إكس"، إذا انتخبتا من قبل زملائهما لرئاسة هيئة التدقيق التكنولوجي. 

"حزب الله" يعاني من المعضلة ذاتها

قدّم الأمين العام الراحل لـ "حزب الله" حسن نصر الله في خطاب له مطلع آب/ أغسطس (2024) نماذج للتشويش الذي أحدثته منصات التواصل الاجتماعي على المواطنين اللبنانيين وألحقت خسائر فادحة في الاقتصاد جراء أخبار مزورة عن قرب الحرب وغيرها. ووصف نصر الله بعض المغرّدين بـ" المفسدين في الأرض". وذهب حدّ القول إنه لو كان قاضيًا لأصدر أحكامًا رادعة بحقّ من ينشر أخبارًا كاذبة على منصات "السوشال ميديا" تضر بأمن البلاد واقتصادها.

محمد دراغمة

مدير مكتب قناة الشرق للأخبار في رام الله

 

رأيك يهمنا