القصة المؤلمة للطفل يوسف، شعرو كيرلي، وابيضاني وحلو

– ماما أنا جعان يمّا ، بدّي آكل..

-متخافش حبيبي ، راح اعمل لك قلّاية بندورة..

خرجتُ إلى منزلِ أم محمود، جارتي المؤقتة، بحثاً عن حبّتي طماطم لإسكاتِ جوع يوسف، حيثُ أوصيتهُ أن يغلقَ البابَ جيّدا ريثما أعود، فأبوه في المشفى يؤدي واجبه ولا أحد بوسعهِ أن يذهب غيري، ذهبتُ مسرعة ودعوتُ الله أن يحفظهُ لي..

على بابِ أم محمود طرقتُ عدّة مرّات لكن لم يجبْ أحد، فذهبت إلى منزلِ آل المقداد، على الطرفِ الآخر من الشّارع، وكلّي أملٌ أن أجد حبّتي طماطم ليوسف، حيثُ أكرهُ أن أبتعد عنه، لكنّ البيت لم يعد فيه شيءٌ يؤكل، أيامُ الحرب السّبعة أصعبُ من كلّ شيء..

– كيفك يمّا ، وكيف أولادك ، انشالله ماوصلكم القصف؟

– والله منيحة ، زي ما بتشوفي ، الله يسترها علينا ياحجة..

ردّدتُ الجواب لأم مقداد وسألتها عن الطماطم، النّاسُ في الحربِ لا تملكُ ترفَ الأحاديث المطوّلة، حيثُ بوسعِ كلّ ثانيةٍ أن تكونَ الأخيرة، أخذتُ الطّماطم وودّعتُ الحجة..

– ادعيلنا يا حجة ، والله الظروف صعبة زي ما بتشوفي، مابدناش نطلع على الأونروا ، الوضع هناك كتير صعب زي مابيحكوا..

– الله يسترها عليكم وعلى النّاس ، كلّها أزمة وبتعدّي بعون الله..

ثمّ صوتُ انفجارٍ كبير…

كلُّ ما أذكرهُ أن سحابةً سوداء حجبت كلّ شيءٍ، لقد أصبتُ بالصمم المؤقت بسبب قوّةِ الانفجار، لكنّ شيئا واحداً كان يشغلُ بالي، هل يوسف بخير أم لا؟

ركضّتُ نحوَ الشّارع وأنا أصارعُ لأخذِ نفسٍ بسبب الأتربة والدّخان، زحامٌ كبير في مكان القصف، والكلّ يصرخ ويساعدُ المسعفين لأخذِ الضحايا، وكأنها أهوالُ القيامة..

– ياجماعة شفتو يوسف؟ فيكم حدا شاف ولد صغير هون ؟

– يما والله ما بعرف ، المصابين راحوا على الشفا إلحقيهم هناك.

تذكرتُ أبو يوسف، يعملُ هناك طبيبا، لم يعد للمنزلِ من بداية الحرب، ركبتُ في سيارة الإسعاف للمشفى، كلُّ ما أذكرهُ آخر لحظةٍ قبل إغلاق باب السيارة، البابُ الذي اغلقتهُ على يوسفْ لم يعد موجودا ، لقد كنتُ خائفة من أخطارِ الأرض بغريزة الأم الفطرية فأوصدتُ الباب ، كيفَ لأم أن توصدَ الخطرَ القادم من السمّاء ؟ حتى الخوفُ في الحروبِ يصيرُ مختلفا..

في الطّابق الثاني من مجمّع الشفاء صادفتُ والده، ببدلتهِ الخضراء، مرهقاً من أيامِ الحربِ ودوامِ العمل الذي لا يتوقّف، لقدْ وهب حياتهُ للنّاس تلبيةً للواجب..

يوسف يوسف.. لم أنطق بأكثر من الاسم، لقد فهم سبب وجودي هنا، النّاسُ لا يأتون للمشفى للتنزّه..

بدأت رحلةُ البحث عن يوسف “يوسف 7 سنين، وأبيضاني وحلو” هكذا كنتُ أكرّر الأمر على كل من أصادف، طبيبا أو صحفيا أو مصابا، لا يهم، كل ما أريدهُ هو معرفةُ مكان يوسفْ.

بعدَ عدّة أدوارٍ والبحث في عدّة غرف تعبت، حاولتْ قدماي رفعي لكنّ خوفي كانَ أثقل، فارتميتُ على أقرب مقعد..

بينما ذهبَ أبوه يبحث مرّت حياةُ يوسفَ أمام عيني، رزقتُ به بعد سنواتٍ من الزواج، كان بمثابةِ النّعمة في حياتي، لكنّه كان جميلاً كالقمر، فعوّض وجودهُ كلّ حرمان، فسميّتهُ يوسف، ربّيتهُ وكنتُ أتنفسُ به، كلّ يومٍ من حياتي كان سعادةً جديدة، وأنا أرى يوسف يكبرُ بين يديّ، صار يوسفُ يلعبُ ويتكلم، وحانَ وقتُ دخولهِ للمدرسة هذه السنة، لقدْ كان ذلك صعباً علي، كيفَ سيكون بوسعي أن أفارقهُ لثمانِ ساعاتٍ كلّ يوم، انتظرته أمام البابِ كلّ يومْ، استقبله بحضني وبقلاية البندورة التّي يحب..

اتركوني لوحدي، سمعتُ أبو يوسف ينطقها بوجع، قفزتُ نحوه وأنا أصرخ يمكن مايكونش هوّ، لقد كنتُ أحاول، لكنّه ولدهُ ويعرفه، لايخطئ الأب في توقّع مستقبل ابنه، فكيف بالتعرف على ملامحه..

عاطفةُ الأم أخبرتني، لقد انتهى كلّ شيءْ، أردّتُ لحظة وداعٍ أخيرة لكنّهم منعوني، أرادوا منّي أن احتفظَ بصورته الجميلة في مخيلتي، يوسف الأبيضاني بشعره الكيرلي، قبلَ أن تشوهه الصـ واريخ..

لا أعرفُ لمن أكتب، لكنّ حزني كأمّ غيرُ قابلٍ للترجمة، فكيف أعبّر؟ كيفَ أشرح سنينَ صبري لقدومِ يوسف، لقد كان يوسف العطاء الذّي عوّض حرماني، فمن يعوّض حرماني من يوسف؟

لقد ربّيته بحبّ، حرمتُ نفسي لأعطيه، وتحمّلتُ الألم والمعاناة ليعيشَ كطفلٍ طبيعي كأولادكم، أغلقتُ عليه الباب لأحميه، فرحل هو والباب، كيفَ للأم أن تحمي إبنها في الحرب..

لقد انتظرتُ يوسف على الباب ليعود من المدرسة كلّ يوم، كيفَ لي أن أنتظر بعد الآن ويوسف لم يعد موجودا؟

لقد رحل يوسف وهو جائع


عن ملتقى فلسطين

جمال زقوت

كاتب وناشط سياسي فلسطيني

رأيك يهمنا