الداخل الفلسطيني: تحريض، وترهيب وتروما الحكم العسكري

هل يُعقل ألاّ يكترث فلسطينيو الداخل المحتل لما يحدث في غزة؟ هل يُعقل أن نشاهد قتل أبناء شعبنا على شاشات التلفاز ولا نكترث؟

الإجابة، طبعاً لا. وأنا أتحدث عن الأغلبية الساحقة التي تصحو وتغفو أمام شاشة التلفاز متابعة الأخبار وغير قادرة على القيام بمهماتها اليومية وتشعر بعجز قاتل.

تهدف هذه المقالة، التي كتبتها، استناداً إلى تحليلي الشخصي، إلى تحليل الوضع الراهن ومسبباته، لا تبريره، إذ يمكن أن تتغير الأمور بين ليلة وضحاها. بدأتُ كتابة هذه المقالة في السادس عشر من تشرين الأول/أكتوبر قبل جريمة الحرب الأكبر من دون تهميش ما سبقها، والتي أسفرت عن مقتل نحو 500 فلسطيني في المستشفى الأهلي المعمداني في غزة. أذكر هذه المعلومة لأن شيئاً ما تغيّر في الاستعداد وضرورة النزول إلى الشارع والمواجهة في الداخل الفلسطيني، كما حدث في الثامن عشر من أكتوبر في حيفا والطيبة، وفي أم الفحم في التاسع عشر من أكتوبر على سبيل المثال.

سأحاول الإجابة عن الأسئلة التالية: لماذا لا يخرج الناس للتظاهر في الداخل الفلسطيني لمَ الصمت؟ لمَ لا يشاركون ما يجري عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الأقل؟! 

في الغالب يخرج الناس للتظاهر في الداخل المحتل تلبية لدعوات التظاهر والمشاركة في الوقفات الاحتجاجية تلبية لدعوات من جهات معروفة، كالأحزاب على سبيل المثال، أو جمعيات المجتمع المدني. وفي السنوات الأخيرة باتت التظاهرات تُنظم من حراكات طلابية، ومطلبية، ووطنية، أو محلية في مدن أو قرى الداخل المحتل، سواء في البلدات العربية، أو "المدن المختلطة".

ولا يخفى ما حدث في هبّة الكرامة سنة 2021، فبعض ما حدث في هذه الهبّة هو الدعوة إلى التظاهرات من جهات معروفة وواضحة في البداية، أو من خلال تجمعات لأشخاص مع تخطيط مسبق. أمّا الآن، أي  منذ السابع حتى السادس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر فلم تصدر أي دعوة من جهة  معروفة  إلاّ في أم الفحم، بينما تم تناقل ونشر دعوة للتظاهر من جهة مجهولة، وفي وقت عصيب كهذا ومع إعلان حالة الحرب، تم التشكيك في مصدر الدعوة ونيتها وهدفها ولم ينزل أحد إلى الشوارع تلبية لهذه الدعوة. أمّا عن وقفات أُخرى فشهدنا وقفة في باقة الغربية، ثم دعوات إلى التظاهر في مدينة أم الفحم. والفرق بين هذه الدعوة وتلك التي سبقتها، هو أن للتظاهرة في أم الفحم هوية واضحة، والجميع يعرف من يقف خلفها.

خلال هبّة الكرامة 2021 وبعدها، حكمت النيابة العامة الإسرائيلية على عدد كبير من الشبان الذين شاركوا في التظاهرات بفترات حكم يتراوح معظمها بين 20 شهراً وحتى 9 و10 سنوات بتهم بالسابق لم تتجاوز العقوبة فيها أكثر من سنتين. واعتقل البعض إدارياً وهو أمر يكاد يحدث لدى فلسطينيي 48 الذين ظلوا غالبًا وعدا بعض العشرات على مدى أكثر من 70 عاماً، يعرفون لماذا سجنوا على الأقل، وما هي الشبهات والتهم الموجهة لهم. وكان معظم المعتقلين والأسرى خلال هبّة الكرامة من جيل سنة 2000 وما بعدها، وكل تلك الأحكام العالية التي صدرت كانت بحق شبان انضموا إلى الحدث لإيمانهم به أو لمرورهم صدفة من مكان ما في وقت ما، وليس لأنهم "ناشطون" معروفون.

 أكاد أجزم، على الرغم من عدم يقيني التام، أنه في هذا الوقت تحديداً لا يمكن الرهان على أن في استطاعة أي حراك أو أي هيئة مستقلة سواء أكانت جمعية أم حركة، أم من الناشطين، أن يأخذ على عاتقه دعوة إلى التظاهر، لأنه وبكل بساطة لن يكون قادراً على تحمل نتائجها، أي لن يكون قادراً على تحمل مسؤولية أي مواجهة، أو اعتقال، أو إصابة، أو سجن، وخصوصاً بعد ما حدث في سنة 2021 والأحكام القاسية التي تلقاها بعض الشبان، الأمر الذي جعل أهاليهم يشعرون بأنهم وحدهم، ولم يجدوا من يساندهم، إذ لم تقم جهات رسمية أو مجتمعية  بمساندتهم باستثناء مبادرات مشكورة لإنشاء صندوق دعم لأهالي أسرى هبّة الكرامة.

وتحديثًا لمقولتي هذه التي قمت بخطها سابقًا وأبقيها كما هي للمصداقية ولعكس الحالة وتغيراتها ففي 17 أكتوبر الجاري دعا حراك حيفا إلى التظاهر في اليوم التالي، بعد حدوث مجزرة المستشفى المعمداني وانفجار الشارع العربي، وحتى اندلاع تظاهرات تضامنية في الغرب. وكان شعار الدعوة "دم واحد، مصير واحد"، لكن في اليوم التالي قامت الشرطة الإسرائيلية بقمع التظاهرة حتى قبل تجمعها، واعتقلت خمسة ناشطين من مكان التظاهرة، بالإضافة إلى اعتقال إحدى الناشطات وهي في طريقها للمشاركة فيها، كما أُصيب أحد المشاركين. وقد وثّقت عدة كاميرات اعتداءات بالضرب على المتظاهرين، واعتُقل العديد من الناشطين. لكن المتظاهرين تجمعوا مرة أُخرى بعد تفريق التظاهرة، وتعرضوا للقمع أيضاً حتى تفرقت التظاهرة تماماً، أمّا الشرطة الإسرائيلية فصرحت بأن "التظاهر ممنوع." وصرح المفوض العام للشرطة: "من يريد التضامن مع غزة سأرسله بالباصات إلى هناك".[1]

وفي التاسع عشر من أكتوبر الجاري كتب أحد الناشطين عبر انستجرام تعليقاً على التظاهرة التي جرت في أم الفحم "الجيش يلف على البيوت، وحتى الآن اعتُقل 32 واحداً غير الخمسة الذين اعتقلهم في التظاهرة، مع أن التظاهرة لم تصل أول البلد أو مركز الشرطة، بل بقيت داخل الحارات بأم الفحم؛ لهاي الدرجة وصل القمع بالداخل، لهاي الدرجة أهل الداخل مخنوقين ومش طالع بإيدهم إشي ومش قادرين يتحركوا، ولهاي الدرجة الاحتلال خايف من هبّة جديدة، وخايفين تكون أم الفحم شعلة لهبّة جديدة بالداخل، عشان هيك بعتقلوا كل واحد يفتح تمه وكل واحد يرفع صوته."

 لم ترد أي بيانات بشأن عدد المعتقلين الكلي في أم الفحم، لكن أقارب أحد المعتقلين ذكر أن هناك 11 معتقلاً بينهم الصحافي أنس موسى. أمّا في مركز عدالة، فقد أقروا بوجود 12 معتقلاً اعتُقلوا خلال التظاهرة. وقد تم إطلاق الصحافي أنس موسى وتحويل الباقين إلى المحكمة. كما صرح مركز عدالة للصحافة في 20 تشرين الأول/أكتوبر: "لأول مرة – يتم تمديد اعتقال معتقلين دون أن يُعطى لموكليهم الحق في الترافع عنهم بحجة إغلاق المحكمة مع دخول يوم السبت."[2] هذا وتم إطلاق معظم المعتقلين فيما بعد عدا عن ناشطين إثنين حتى كتابة هذه السطور. 

أمّا السبب الثاني للامتناع عن الحديث أو الفعل، فيتمثل في إعلان حالة الطوارئ والحرب، علماً بأنه لا يوجد قانون واضح، ولم يعد هناك أي شيء مألوف. فعلى سبيل المثال، يُعتبر الحق في التظاهر مضموناً بحسب القانون الإسرائيلي، أمّا الآن فهذا ليس واضحاً. “ويعني إعلان حالة الحرب وضع إسرائيل وسكانها ومرافقها المدنية تحت قانون الطوارئ، وتكليف قيادة الجبهة الداخلية في الجيش الإسرائيلي بالتصرف وفق متطلبات الحرب، مما يعني عملياً تجاوز موافقة القيادة السياسية على كل عملية عسكرية."[3]

السبب الآخر، الذي لا يقل أهمية عمّا سبقه، هو اقتراحات قوانين تقيّد حرية التعبير قُدمت من أعضاء كنيست ووزراء إسرائيليين، مثل اقتراح تعديل قانون يدين الفلسطينيين لمشاهدتهم مقاطع فيديو تتعلق بحماس. والسماح بإطلاق النار نحو المتظاهرين الذين يقومون بسد الشوارع وأخيراً، بدأنا نلحظ اعتقالات بحق أشخاص ذوي أرقام المتابعات العالية على وسائل التواصل الاجتماعي، الذين يشاركون ما يحدث عبر منصاتهم الاجتماعية، كعبد الرحيم حاج يحيى، ومهند طه، وسمر راشد، والفنانة دلال أبو آمنة وغيرهم، وقد تم الإفراج عن معظمهم بشرط عدم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى اعتقالات عشوائية في يافا. بالإضافة لإجراءات متطرفة بحق الفلسطينيين كالمطالبة بسحب جنسية الممثلة النصراوية ميساء عبد الهادي بعد تقديم لائحة اتهام ضدها، وفصل طفل من اللد ابن العشرة أعوام مشخص بالتوحد من مدرسته، بسبب سؤال المعلمة له من تريد أن يفوز؟ وقد أجاب الطفل؛ غزة. [4]

أمّا في القدس فالوضع مختلف تماماً، فهو أخطر وبدأ بالتفاقم، إذ حتى الآن تم اعتقال أكثر من 200 معتقلًا، حُوّل معظمهم إلى الاعتقال الإداري. تم الإفراج عن بعضهم وتحويلهم إلى الحبس المنزلي [5]. ويظهر ما ينتج هذه الاعتقالات، ومن إعلان حالة الحرب، ومن تروما أهلنا وأجدادنا من فترة الحكم العسكري، والخوف لديهم الذي يمررون جزءاً منه إلينا يومياً، عبر تنبيهات في كل مكان وزمان "انتبه" "تحكيش" بتخاف .…" "بتخسر تعليمك" "بتخسر شغلك".

وهناك أيضاً عدم الشعور بالأمان، إذ تنتشر تحريضات على التعرّض الشخصي لناشطين ولمرابطي الأقصى مع نشر تفاصيلهم الشخصية كأرقام الهويات، وأرقام الهواتف، وعناوين السكن، وعنوان العمل وكل معلومة خاصة ممكنة. فمثلاً، هناك أكثر من ثلاثة آلاف مشترك في قناة التلجرام باسم "صيادي النازيين" من غلاة المتطرفين الإسرائيليين.

تصرفات كهذه تهدد عائلات بأكملها لا أشخاصاً بمفردهم فحسب. والأهم من ذلك كله هو الدعوة إلى تسليح المستوطنين، إذ نادى إيتمار بن غفير وزير "الأمن القومي" الإسرائيلي إلى تسليح الإسرائيليين وإعطاء تسهيلات للحصول على رخصة حمل السلاح، وبإمكان أي إسرائيلي طلب التسلح عبر الهاتف. وقد بدأ بالفعل توزيع أكثر من ٤ آلاف قطعة سلاح حتى الآن.[6]   

يُضاف إلى هذا كله الإجراءات التي بدأت الجامعات وأصحاب العمل اتخاذها، مثل فصل الطلاب والعمال، أو تعليق دوامهم في ظل وضع اقتصادي سيء في الداخل المحتل، فمعظم الفلسطينيين لم يعد باستطاعتهم تسديد ديونهم عند انتهاء كل شهر.

ولا يطال التحريض والتهديد الفلسطينيين فقط، بل يمتد أيضاً إلى كل إسرائيلي يتعاطف مع الفلسطينيين. فقد تعرّض الصحافي الإسرائيلي المتديّن يسرائيل فراي، على سبيل المثال، للتهديد بالقتل واقتحام منزله، كما تجري المطالبة بفصل 25 محاضراً في الجامعات الإسرائيلية وقّعوا عريضة ضد فصل الطلاب الفلسطينيين المتهمين بـ "دعم الإرهاب" لمجرد ضغط "لايك" على أحد منشورات:

Eye on Palestine، أو مشاركة آية قرآنية.


 المصادر:

[1] تصريح مفوض الشرطة ضد التظاهر، صحيفة هآرتس الاسرائيلية، انظر الرابط.

[2] بيان عدالة كاملاً: 20/10/2023:

عدالة: "لأول مرة - تمديد اعتقال معتقلين بدون أن يعطى لموكليهم الحق في الترافع عنهم بحجة إغلاق المحكمة مع دخول يوم السبت.

مددت محكمة الصلح في حيفا اليوم اعتقال 11 معتقلاً من مظاهرة أم الفحم بينهم 4 قاصرين بدون أن يكون هناك أي مداولات جدية في جلسة المحكمة.

 هذا وقامت الشرطة باعتقال المتظاهرين بطريقة عنيفة مساء أمس من مظاهرة في أم الفحم تندد بالحرب على غزة. فعلى الرغم من تواجد طاقم الدفاع والأهالي في المحكمة منذ الساعة العاشرة صباحاً، لم تحضر الشرطة المعتقلين إلاّ الساعة ١٥:١٥ وذلك عبر تقنية الفيديو.

وعللت القاضية قرارها بتمديد الاعتقال حتى ليلة السبت بحجة أن المحكمة تغلق أبوابها ساعتين قبل دخول السبت، أي الساعة الثالثة والنصف (ربع ساعة بعد بدء الجلسة) ولا مجال لاستمرار الجلسة.

هذا وتقدم مركز عدالة وطاقم محامي الدفاع باستئنافٍ للمحكمة المركزية، بطلب لعقد جلسة والنظر بالاستئناف الليلة."

كما أضاف مدير عام مركز عدالة، د. حسن جبارين: "لم نشهد قبل أمراً من هذا النوع، فيه تقرر المحكمة تمديد اعتقال بدون مداولات قانونية".

[3] ماذا يعني إعلان حالة الحرب في إسرائيل؟ انظر الرابط

[4] عن الطفل من اللد. انظر الرابط.

[5] الاعتقالات في القدس. انظر الرابط.

[6]تسليح المستوطنين، انظر الرابط.

*المقالات المنشورة تعبّر عن آراء كاتبيها.

عبير بشتاوي

صحافية مستقلة، فنانة مسرحية، وطالبة ماجستير في دراسات فنون الأداء والمسرح

شاركونا رأيكن.م