شكلّت عودة الرئيس عرفات من تونس إلى الأراضي الفلسطينيّة المحتلة لعام 1967 بارقةَ أمل مقتطعة من أوجاع الفلسطنيين وقهرهم وغياب تمثيلهم السّياسي الرّسمي، إذ اعتبر الكثيرون أنّ عودة المنظمة إلى فلسطين هي أوّل خطوة لبناء دولة فلسطينيّة مستقلة ذات سيادة، وعلى الرّغم من الانتقادات والمعارضات والأصوات المشكّكة في مسألة السّيادة، فكر الرّئيس الرّاحل عرفات في بناء ملامح لهذه السّيادة المتمثلة بالميناء والمطار على اعتبار أنها رموزًا لتثبيت الدّولة الفلسطينيّة النّاشئة، وعلى الرّغم من أنّ النّقاش بين الموالاة والمعارضة لاتفاقية أوسلو كان محقًا وفي محله ويشكل في مجمله مناخًا ديمقراطيًا إلّا أنّ هذا النّقاش لم يدم طويلًا أصلًا، إذ إن أوسلو لم تكن قد ولدت حتى باتت تجهز نعشها والتّابوت.

قرّر الرّئيس عرفات أنّ يبني مطارًا وميناءً في مدينة غزة، ومن أجل ذلك دعمت دول كثيرة السّلطة الفلسطينية لحظة نشوءها في تدعيم البنيّة التّحتية وبناء المؤسسات والوزارات وتشكيل القوى الأمنيّة والجهاز الإداري للمؤسسات الفلسطينية والتّعليم والصّحة. إلّا أنّ المطار والميناء شكلا في الوعي الفلسطيني العام شكلًا جديدًا ودوافعًا لرؤية الدّولة، وعلى الرّغم من عدم اتفاقنا على أنّ السّلطة في مجيئها قد امتلكت سيادة ـ حتى هذه اللّحظة ـ إلّا أنّ المطار فعلًا كان تحديًا فلسطينيًا بارزًا وشكل ملمحًا مهمًا للسلطة الناشئة أنذاك.

مطارٌ للأشباح

عند الجهة الشّرقيّة من مدينة رفح جنوب قطاع غزة ثمة مدرجات اسمنتية معطوبة لم تقلع منها طائرة منذ أكثر من 18 عامًا. إذ تم افتتاح أوّل مطار في أراضي السّلطة الفلسطينيّة بعد توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التّحرير الفلسطينيّة وإسرائيل عام 1993، وافتتح المطار الرّئيس الرّاحل ياسر عرفات عام 1998. إلّا أنّ هذا الرّمز السّيادي أو لنقل شبه السّيادي تحول إلى رماد بعد قصفه مرات عديدة من قبل طائرات الجيش الإسرائيلي الحربيّة في فترات العدوان على غزة. شكل المطار بارقة أمل صغيرة لدى الفلسطنيين بأن يمتلكوا حقهم في التّنقل بإرادتهم ومن أرضهم بعد أن كان الفلسطيني يعبر إلى دول مجاورة عربيّة ليسافر عبر مطاراتها.

ضم مطار غزة الدّولي مدرجًا رئيسيًا بطول 3080 مترًا وبعرض 60 مترًا، بدأ البناء فيه يوم عشرين كانون الثّاني 1996 حين وضع الرّئيس عرفات حجر الأساس للمطار، وفي حزيران 1996 حطت طائرة الرّئيس عرفات على أرض المطار الذي افتتح رسميًا في كانون الأول 1998 بحضور الرّئيس الأميركي الأسبق كلينتون وعقيلته هيلاري، صُمم المطار لاستيعاب 750 ألف مسافر سنويًا، على مساحة تقدر بـ2800 دونم بكلفة 22 مليون دولار، وبتمويل من دول عدة إذ كان يعمل فيه قرابة 1200 موظف مدني وأمني. كما استضاف المطار أوّل شركة طيران فلسطينيّة كانت تملك طائرتين صغيرتين من نوع "فوكر" إضافة إلى طائرة بوينع 727 تتسع لـ 145 راكبًا.

إلّا أن هذا الحلم لم يدم طويلًا، فقد أعقبت انتفاضة الأقصى يوم 28 أيلول 2000 سياسة إسرائيليّة تعمدت من خلالها بقصف المطار مما أحلق به أضرارًا جسيمة أوقفه عن العمل، ثم قصفته إسرائيل في عدوان 2008-2009 وما تلاه من عداوانات، حيث تعرض مرارًا للقصف الجوي والمدفعي وسوي في الأرض، كما أنّ أحداث عام 2007 والفراغ الأمني الذي أنتجته هذه الأحداث فتح الباب واسعًا لاستغلال مجهولون هذا الفراغ لسرقة محتويات ومعدات من المطار من بينها أجهزة الرادار وبرج المراقبة الجوية، والأثاث واقتلاع حجارة الأرصفة وشبكات الكهرباء. وبات المطار ساحة فارغة يشبه تمامًا مدينة أشباح خاوية.

وبدون مطار في غزة وبسبب الحصار الإسرائيليّ المفروض منذ سنوات لم يتبقى للغزيين سوى معبر رفح البري مع جمهورية مصر العربيّة، حيث أن بوابة العالم للغزيين مقتصرة فقط على معبر رفح بما يشكله من معاناة وقهر وألم وتبعية سياسيّة مرهونة لطبيعة الأوضاع السّياسيّة والأمنيّة.

لسان المدينة المُكبّل

عند الجهة الغربيّة من مدينة غزة بالقرب من منطقة الرّمال ثمة ميناء صغير لمراكب الصّيد الفلسطينيّة وقاعدة لسفن الشّرطة البحريّة الفلسطينيّة، اُفتتح الميناء تحت اتفاق أوسلو الثّاني، إذ أشير إلى مسألة الميناء البحري في اتفاق أوسلو الذي وقع عام 1993، تحديدًا في نص البند السابع في الاتفاق على أن تقيم السّلطة. سلطة ميناء بحري في غزة، وأنشأ الرّئيس عرفات أنذاكَ سلطة الموانئ البحريّة الفلسطينيّة بقرار رئاسي عام 1999، بهدف توفير نظام نقل بحري في فلسطين ونص المرسوم أيضًا على إقامة ميناء غزة وذلك بعد الاتفاق على إقامته في مباحثات شرم الشّيخ 1999، نصّ الاتفاق على موافقة الجانب الإسرائيليّ على أن يبدأ الجانب الفلسطينيّ بأعمال البناء في غزة، وأنّ تشغيل الميناء لن يبدأ قبل الاتفاق على برتوكول يشمل الأمن، وحسب الاتفاق فإنّ ميناء غزة يشكل حالة خاصة نظرًا لوقوعه تحت مسؤوليّة الجانب الفلسطينيّ. وتضمن بناء الميناء ترتيبات للفحص الأمني تتعلق بالأشخاص والبضائع.

كان يفترض أن تصل الطّاقة الاستيعابيّة لميناء غزة 7 سفن في البدية ثم 11 سفينة، لكن مع بدء الانتفاضة الثّانية توقفت كل الخطّط، وفي اتفاقية 2005 للمعابر بين السّلطة وإسرائيل اتفقا على إقامة ميناء غزة من جديد إلّا أنّ ذلك لم يتم بسبب الظّروف السّياسيّة والأمنيّة والعلاقة بين السلطة وإسرائيل بعد أحداث الانتفاضة الثّانيّة.

يُقال أنّ ميناء غزة هو لسان المدينة الوحيد حين تريد أن تصرخ، وهو لسانها الوحيد حين تريد أن تشكو همهّا وحزنها، أو ربما تعلم المدن الأخرى قدرتها على الحياة، إلّا أنّ الميناء ظلّ حبيس الكلام، مقتصرًا على أطفالٍ صغار يلعبون حوله، وسفنٌ صغيرة جدًا للترفيه السّياحي بشرط ألا تتجاوز 6 أميال بحرية بسبب الحصار الإسرائيليّ المفروض على غزة منذ 2007.

وبعد أن ظلّ الميناء متروكًا وفارغًا سوى لأنشطة الشّرطة البحريّة التي لا تعمل إلا في مهام بسيطة ومحدّدة، قرّرت حكومة غزة أن تفتح الميناء للزوار وأن تبنى داخله بعض المنتجعات والمطاعم والأماكن السياحيّة تشجيعًا للاستثمار المحليّ وتشغيلًا للميناء على أرضه الواسعة. وهكذا تحول حلم الميناء كممر دولي يمثل رمزًا للسيادة الفلسطينيّة إلى مكان يضم منتجعات ومطاعمَ سياحيّة وسفن قديمة أكلها الصدأ وتبخرت معها أحلام الفلسطنيين بأن يكون لهم ميناءهم الخاص أو حتى مطارهم الخاص.


نشر في منصتا يوم 1 آب 2021.

كريم أبو الروس

كاتب وباحث فلسطيني، عمل كمساعد باحث في قسم العلوم السياسية بجامعة القديس يوسف في بيروت وحاصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية من نفس الجامعة. نشرت له رواية بعنوان "غريق لا يحاول النجاة" عام 2018، ونشرت له العديد من الأبحاث والدراسات في دوريات عربية ودولية

شاركونا رأيكن.م