المخيّم وخدعة العين

لمجرد عبوره إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الموزعة على ثمانيّة مناطق في قطاع غزة، على قدميه أو أي وسيلة مروريّة كانت، سيجد المار الغريب، هيكله يسير في بعض المخيمات على طرق رئيسيّة مرصوفة وأسفلتيّه وخاليّة من الأتربة، ولا وجود للحفر التي قد تنبع بمياه الصّرف الصّحي بسبب عدم تأسيس خطوط مياه في أسفل الطرق المخصّصة لتصريف المياه العادمة من المنازل، وتنشدّ أنظاره إلى منازل مبنيّة وفق الدّيكورات المعماريّة الحديثة وتكون أسفلها محال تجاريّة ضخمة ذات تصميم حديث من الدّاخل والخارج، وأناس تسير بجانبيه وهي كاسيّة أجسادها بلباس عصري.

وأمام هذه المظاهر التي تدل على رغبة اللاجئ الفلسطيني بـالعيش في داخل مخيم مشيد على أسس سليمة وصحيحة، من الطّبيعي في وهلة أن يستغرب ويندهش مما رآه، كونه سمع عن مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين الذين هجرتهم إسرائيل من بيوتهم عام 1948، ووضعوا فيما بعد تحت تصرف مؤسسة تابعة للأمم المتحدة والتي تعرف بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا". في سوريا والأردن ولبنان والضّفة الغربيّة وقطاع غزة، وقد يسأل متعجبًا: هل ما رأيته حقًا "مخيم لاجئين؟ وأين الخيم؟ وأين منازل الصّفيح؟ وهل ما رأيته مدينة ملكيتها لسكان أصليين؟ ويسأل أيضًا: هل السّنوات الطّوال من التّهجير أعدمت شواهد النّكبة؟ ثم تخدعه عيناه إلى طرح مزيد من الأسئلة ليعيش ذلك المار في الظّاهر التّحضري الطّبيعي لبشر أصروا على العيش حياة كريمة معتدلة، وهم مصنفون دوليًا على أنهم لاجئون، ووطنيا على أنهم "منكوبون" إلى حين إيجاد حلًا منصفًا لهم، بينما يجد نفسه فقيرًا للباطن المتمثل بالمنازل المتلاصقة ببعضها البعض داخل أزقة كل مخيم وغشيم أيضًا بطبيعة الأوضاع المعيشية المترديّة الذي يعيشها اللاجئون طيلة أكثر من سبعة عقود من الزّمن بفعل الاحتلال والتّضييق، وأبسط ما أقول إنه لم يشاهد اصطفاف اللاجئين بكلّ كرامة وعزة نفس أمام مراكز التّموين وهم ينتظرون "الكابونة الصغيرة" التي تقدمها "الأونروا" إليهم كلّ بضعة أشهر، وهي تحتوي على (دقيق وفتات من العدس والسّكر وعبوات صغيرة من زيت الذّرة)، ودائمًا تدعي "الأونروا" أنها تعاني من ضعف حاد بالتمويل الدّولي المقدم لها. فالمساعدات التّموينيّة والفرص التّشغيلية والتّوظيف، واجب والتزام قانوني ودولي من "الأونروا" تجاه اللاجئين الفلسطينيين.

وما سلفته عبارة عن شرح بسيط للظاهر العلني للمخيمات الثّمانية التي أتجول على الدّوام بين أزقتها وحاراتها المكتظة بالسّكان، والمعتاد على سماع أصوات ساكنيها الهاربة من النّوافذ المطلة على بعضها والمنخفضة بالأغلب بحكم عملي في الصّحافة. وخلال هذه الإضاءة التي صوبت نحو مخيمات القطاع تحديدًا، لمست خلال السّنوات القليلة الماضية حالة "تمدين" واضحة دخل المخيمات، نتيجة إنشاء أبراج سكنيّة استثماريّة بداخلها، بالإضافة إلى التّوسع الديمغرافي الرّهيب، والتّقليص الواضح في المساعدات التي تقدمها "الأونروا"، والتّراجع الملحوظ بخدماتها، ودخول البلديات التّابعة لمؤسسات السّلطة الفلسطينيّة على خط الخدمة، لنرى نفوذ وصلاحيات الأخيرة تتسع داخل المخيمات.

وهذه جميعها عوامل تفقد المخيم صفة اللّجوء والهويّة الوطنيّة وتزيل رائحة الماضي المركبة بأوجاع الأجداد، وهناك مؤشر واضح على تراجع دور وكالة الغوث داخل المخيمات خلال السّنوات القليلة المقبلة، وترك شؤون المخيمات إلى البلديات، وهذا ما يسعى إليه الاحتلال الإسرائيلي لإلغاء وجود "الأونروا" من الأصل، ولتطوين اللاجئين في البلدان المضيفة لهم، لأنه يرى فيها الشّاهد الطّبيعي والوحيد على حق العودة للاجئ الفلسطيني.

ومهما تزين وتوسع وتمدن "المخيم" ستبقى بلدة الفالوجة المحتلة الذي يعود أصلي منها، هي الأجمل بنظري وهي معلمي الوطني وهي عنوان تعريفي، بفضل قصّص وصفيّة سمعتها من جدي وجدتي، أطال الله بعمرهما، عن جمال أراضيها وبيوتها وسوقها الأسبوعي، وأحداث سردت لي وسمعتها بشغف من جدي.

لو كتبت تقريرًا أو قصةً صحافيّة عن نكهة العيش بالمخيم، لن أجد أسرع وأمرن من اقتباس حديثي الواصف لجمال المخيم بحاراته ومفترقاته ومطاعمه الشّعبية، والبارز أيضًا لطقوسه وعاداته ومناسباته السّعيدة والحزينة، كوني ترعرعت بداخل أصغر مخيمات القطاع، مساحة وسكانًا، وهو مخيم "البريج" الواقع وسط القطاع، وتلقيت تعليمي الابتدائي والإعدادي بمدارس "الأونروا". والجميل على سيرة المدارس الزّرقاء نسبةً إلى لون شعار المؤسسة الأمّمية، فإني أذكر الطّعام والشّراب اللذين اشتريتهما من مقاصفها، وأذكر تجولي في السّوق المتفرع داخل المخيم الذي كان يوم الخميس. ولدي عائلة وأصدقاء طفولة هناك. وأنا الآن أقطن في المدينة منذ سنوات، وأحن إلى ذكرياتي هناك وأزور باستمرار عائلتي وأصدقائي. أما عملي يذكرني دائمًا بأني كنت بالمخيم ذات يوم، حين أقابل اللاجئين وأتحدث معهم في مخيم "جباليا والشّاطئ ودير البلح والنّصيرات وخان يونس ورفح والمغازي". وللصراحة لم تعد المخيمات كما كانت في السّابق نتيجة الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ ما يزيد عن 14 عامًا، وانعدام المشاريع التّنمويّة وعدم توفر فرص العمل في صفوف الخرجين من اللاجئين، وارتفاع معدلات الفقر ونقص في المياه وتآكل البنيّة التّحتيّة، والاختلاف الفكري والسّياسي وتأثيره على النّاس بسبب حالة الانقسام الفلسطيني السّائدة.

وإنما لكلّ مخيم مما ذكرته، أسلوب حياة وشكل معماري مختلف وطرق وأرصفة ومحال تجارية وأسواق ومركبات مغايرة، لكن حكاية "النّكبة" المورثة من الأجداد إلى الأبناء، باقيّة حيّة وتصدح في أروقة وزوايا كلّ مخيم. إنها حكاية أجدادنا الذين عاصروا النكبة وشاهدوا بأم أعينهم جرائم العصابات الصّهيونيّة آنذاك. فمنهم من سرد حكاية اللّجوء والتّشريد، وزرع حب الأرض والوطن في نفوس أبنائه وأحفاده، وقدم لهم مفتاح العودة وكواشين تثبت أملاكه وعقاراته في بلدته الأصليّة ثم فارق الحياة، وجزء قليل منهم على قيد الحياة يملك ذاكرة قوية ومنعشة بحنين الماضي وحاقنة بلا منتهاه بذاكرة الأجيال، لكي يحثهم على عدم التّنازل عن حقهم في العودة مهما طال الزّمن.

ومن باب المعرفة، حولت النّكبة الفلسطينيّة قطاع غزة إلى أكثر بقاع العالم اكتظاظًا بالسكان، إذ بلغت الكثافة السّكانيّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة في نهاية عام 2020 المنصرم، حوالي 857 فردًا/ كم2 بواقع 545 فردًا/ كم2 في الضّفة الغربية و5,693 فردًا/ كم2 في قطاع غزة. علمًا بأنّ 66% من سكان قطاع غزة هم من اللاجئين، بحيث تسبب تدفق اللاجئين إلى تحويل قطاع غزة لأكثر بقاع العالم اكتظاظًا بالسّكان.

واستكمالًا للمعرفة، فإنّ الاحتلال الإسرائيلي أقام منطقة عازلة على طول الشّريط الحدودي لقطاع غزة بعرض يزيد عن 1,500 مترًا على طول الحدود الشّرقية للقطاع وبهذا يسيطر على حوالي 24% من مساحة القطاع البالغة 365 كم²، مما ساهم بارتفاع حاد بمعدل البطالة في قطاع غزة إذ بلغت 47%، ويتبين أنّ معدلات البطالة السّائدة كانت الأعلى بين الشّباب للفئة العمريّة 15- 24 سنة بواقع 72% للعام 2020، هذا بدوره ساهم بتفاقم وضعف الواقع الاقتصادي في قطاع غزة، مما حوّل ما يزيد عن نصف السّكان في قطاع غزة إلى فقراء، فقد بلغت نسبة الفقر في العام 2017 في قطاع غزة 53%، وفق ما نشره جهاز الإحصاء الفلسطيني.

وربما البعض لا تعجبه بدايتي في الكتابة حين أظهرت الصّورة الخادعة للمخيم الذي قد يرى البعض بشكله العصري اليوم بأنه "مدينة"، وينسى أنه مخيم بطابع وجوده ومعاناة سكانه التي تعود إلى عام النّكبة وما صاحبه من متغيرات معيشية إلى يومنا هذا. وآخر القول: لقد خصّصت صورة اللاجئ في نفسي، لاعتزازي بأنني لاجئ عشت في مخيم مثقل بمعاناة أجدادي وأبناء شعبي بسبب الاحتلال والظّروف السّياسيّة والاقتصاديّة.


نشر في منصتنا يوم 1 آب 2021.

ليث شحادة

كاتب صحافي فلسطيني

شاركونا رأيكن.م