نِساء سورية مِن صَمت في عَرنوس إلى الغِناء في ساحات الأمويّين والحِجاز
وَعادَت السّاحات لنا
لم يكن الخروجُ إلى الساحات الكبرى مسموحًا للنساء في عهد نظام الأَسَد، بل مسيرةٌ واحدة صامتة في ساحة عَرنوس إحدى ساحات دمشق الصغيرة، في يوم ذكرى الإعلان العالميّ للقضاء على العُنف ضد المرأة، أمّا باقي الساحات فكانت حكرًا على المسيرات المؤيّدة للأسد في ذِكريات الحركة التصحيحيّة والثامن من آذار والسادس من تشرين.
تلك المسيرات التي أُجبِر السوريين/ ات على الخروج فيها بمظاهر تبدو كأنها فرحٌ شعبيّ، وهي في حقيقة الأمر سطوَة نظام أذاق السوريين/ ات مرارةً لا يدركها إلا من عاش في سورية وتعلّم في مدارسها، ولم تكن المدارسُ سوى سجون بقضبانٍ سوداء تَعمل بعقلّية التلقين لتحوّل العقول مِن فكرٍ يؤمن بالوحدة والعروبة إلى أفكار تشدّ على أيدي السلطان كيفما شاء. فقد درَس الطلبة منذ الثمانينات أنّ رئيس البلاد حرّر الجولان والقنيطرة وهو يحميهم من التيارات الإسلاميّة المتشدّدة، ورفعوا شعارات التضحية بالدم لأجل قائدٍ سيعيش إلى الأبد "بالرّوح بالدّم نَفديك يا حافظ". كُنّا نقف طوابيرَ كلّ صباح ونصيح بأعلى صوتنا لتسمع المعلمات وجواسيس أفرع الأمن صوت حشرجتنا نحن الأطفال والفتية والشباب نفديه وننتقم مِن أعدائنا، في سبيل الوحدة والحريّة والاشتراكية، فيشعر بالنّشوة وهو مَن قتَل آباءنا وإخوتنا في مجازر حماة ودفنهم وبنى فوق جثثهم حدائق لتظهر حماة كأجمل المدن، فيما تحتَها جرائم لم تُفتح ملفّاتها إلا بعد الحادي عشر من آذار 2011 عندما صاح الشعب "سوريّة بدها حريّة".
حريّة للأبد غَصِب عنّك يا أَسَد
ما لبثت أناشيد الحريّة أن تحوّلت بعد أشهر من التظاهرات السلميّة إلى "حريّة للأبد غَصِب عنّك يا أَسَد"، فأظهَر النظام وَجهه الحقيقي دون خجلٍ أو خوف برعايةٍ عالمية وبدأ بقتل السوريين وتَهديم بيوتهم ليعيشوا أسوأ ثلاثة عشر عامًا في تاريخ سورية، وفعل ما لم يَفعله لا المغول ولا التتار ولا أسوأ احتلال عاشته سورية. تحوَّل السوريّون إلى لاجئين ونازحين وغَرقى في البحار، أو في زنازين تَحت الأرض كانَ السوريون يعرفونها باسم "بيت خالتك" كَشَفتها لحظة التحرير للعالم، ولنتفاجأ كسوريين أن بيت الخالة تحتنا كنّا نمشي عليه يوميًا فهو تحت دمشق كلّها، مِن باب مصلى إلى كفرسوسة، من جامعة الهمك إلى "فرع فلسطين"، من الخطيب إلى فرع الدوريات، أفرع أمنية أكثر من عدد المدارس في سورية، لكنها أقل بكثير من أن تحوّل السوريين إلى رماد.
مُعتَقلات وأمّهات وزوجات يَنتَظرن
وأخيرًا، في الثامن من كانون الأول 2024 سقَط النّظام، وأعلَن السوريّون بمكبرات الصّوت انهزام وفَرار نظام أعاد سوريّة للوراء أكثرَ مِن مئة عام، وعلى الفور فُتِحت أفرع الأمن بيد هيئة التحرير وبدأت القنوات الفضائيّة بثّ مَشاهد تُرعب العالم، لم نُصدّق هول ما رأينا رغم أنّنا قرأنا الكثير عن روايات العَذاب التي عاشَها المعتقَلون والمعتقَلات في سجون الأسد، وأخبَرَنا مَن عاد منها حيًّا، لكن "مَنْ سمع ليس كمن رأى"!
لم تصل مخيّلتنا إلى هذه الدّرجة مِن الفظاعة، أطفال ونساء وشباب ومسنّون بعضهم يرى الضوء أوّلَ مرّة، فمنهم مَن وُلد وكثيرٌ جدًا مَن مات داخلها.
كانت أكثر المَشاهد إيلامًا مِن حصّة النساء اللواتي تَحوّلن إلى أشلاء في الجسد والروح، هؤلاء النساء اللواتي وُلِدن مِن رحم ثريا الحافظ التي شاركت في العمل العسكريّ وفي أوّل مظاهرة نسائيّة سورية داعمة لكل من فوزي الغزّي وفارس الخوري وسعد الله الجابري وهاشم الأتّاسي عام 1929، ورشّحت للانتخابات البرلمانية في سوريا عام 1953 بموجب الدستور الذي عدّله حسني الزّعيم، وتعلّمن من ثبات إسلامبولي أول طبيبة عربيّة تتخرّج مِن جامعة أمريكية في العام 1885، ولوريس ماهر الطبيبة التي تخرّجت من جامعة دمشق عام 1930، حفيدات "ماري عجمي" الأديبة والشاعرة والصحافية التي أصدرت أول مجلة نسائية في سورية "العروس" عام 1910.
هؤلاء النساء اللواتي خرجن مِن عمليّة البَحث عن أبنائهنّ، منهنّ مَن عثَر على أجساد بلا روح، ومنهنّ مَن حمَلَن حبلَ المشنقة المُحنّى بلون دم أبنائهنّ علّهن يسمعن صوت أنينهم يشاركنهم ألَم اللحظات الأخيرة.
لكلّ هؤلاء النسوة، وباقي نساء سوريا اللواتي تحَوّلن إلى مُعيلات لأكثر من أسرة، فُتِحت اليوم ساحات جديدة، تحت ظلّ هذا العَلَم ذي النجوم الحمراء الذي سيعيد لهنّ حقوقهنّ بعد ظلم دام عقودًا أُقصين خلالها عن المشاركة السياسيّة والاجتماعية والاقتصادية، وبعد سنوات مِن العنف الأسري، حيث تقاعس النظام البائد عن تغيير القوانين التمييزية ضدهن بحجة الشّريعة الإسلامية، إذ ظلّ يقمعهن ويهدّدهن بمصير أسود بعده، فهو نظام يدّعي أنّه علماني يَظهر بصورة امرأة جميلة شقراء تلبس أفخم الماركات، وتزرع الورود والياسمين، ورئيس شاب بعيون زرقاء تعلّم الطبّ ونال أعلى الشهادات، يقود سيّارته بنفسه ويتجوّل في الحميدية والصالحية ويشجّع الفنّ ويصادق الفنّانين واللاعبين/ ات، وهو في حقيقته نظامٌ قمعيّ لم يرحل إلا على دماء مئات الألوف من السوريين/ ات ولن يَعود بأي وجه آخر بعد اليوم، فقد خَرَجت النساء إلى الساحات يضعن أيديهن بأيدي الرجال، ويصنعن مع سوريّة الجديدة مستقبلًا يستحقه أبناؤها وبناتها، ويرفَعن علمًا بنجوم حمراء تضيء يُعلِن بدايةَ جديدة.
المحامية رهادة عبدوش
محامية وكاتبة وناشطة في قضايا المرأة وحقوق الطفل والمعاق وقضايا الإعلام، تعيش في دمشق.