سوريا ومَخاضَ الوِلادَة: سَقَط النِظام ولم تَكتَمِل الثورة
لم أكُن أتوقّع أن سقوط نظام الأسد سيكون بهذا الشّكل الدراماتيكي، وأن سقوطه استدعى عملية لم تتخطَ عشرة أيام مُنذ تحرير حلب في السابع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر)، إنتابَني هذا الشعور بَعد ما رأينا طوال ثلاثة عشر عامًا طيرانًا وبراميلَ ورصاصًا حيًّا تنهال على الشعب السوري وعلى البيئة الحاضنة لثورته والجيش السوري الحرّ في البدايات، بعد كلّ ما رأيناه من فظاعة وتشبّث بالسلطة واستجلاب احتلالات وتدخّلات خارجية وميلشيات إيرانية دينيّة، زاد قلَقنا جميعًا بأن هذا النظام سيبقى جاثمًا على صدورنا للأبد..
سَقط الأسد، وإلى الأبد، وسَقَطت معه كلّ رواياته الكاذبة، وما كان مستحيلًا أصبح واقعًا وممكنًا، ولأول مرّة يستفيق السوريون بعد ٥٤ عامًا مِن حُكم الديكتاتور بدون الديكتاتور، لا كلمات تَصِف فرحة السوريّين بزوال الطّاغية، والمشهد الحقيقي الذي يحاكي هذا الشعب بوجدانه وفرحه؛ هو مَشهديّة الرجل الذي يمشي في شوارع دمشق في السادسة والنصف صباحًا، صارخًا بِسقوط الأسد، وأصوات الفرح تُسمع وتَخرج من الشبابيك..
على صَعيد الجولان المُحتل، لم أشعر شخصيًا بهذا الحجم -وبهذه القوة- مِن الانتماء لشعبي ووطني السوري، حالةٌ من الفرَح الغامر والنّشوة التي طال انتظارها، كحال الكثيرين من الجولانيّين، فالجولان المحتّل كانت له حصّة من إجرام الأسد، فقد قُتل تحت التعذيب الشهيد الطبيب عماد أبو صالح ابن مَجدل شَمس، وكان ذنبه الوَحيد إغاثة المتظاهرين، وكذلك أمرُ الدكتور صلاح عماشة ابن بقعاثا الذي لا يزال مصيره مجهولًا حتى هذه اللحظة.
سوريا للسوريّين؛ وبناء الوطن
أصعبُ شيء كان في سوريا هو إسقاط النظام، وما بَعد إسقاط النظام يصبح كلّ شيء ممكنًا، لكنّه ليس سهلًا أبدًا، ومِن بَعد سقوط النظام البائد بدأتْ سوريا مخاضَ الولادة، ولا وِلادة بدون آلام، والوِلادة بحدّ ذاتها فَرَح.
تحتاج سوريا اليوم إلى مثقّفيها وأكاديميّيها في عملية بناء الدولة، والدعوة الملحّة جدًا لمؤتمر وطني سوري، وبداية العمل السياسيّ الجاد والواعد دون الوقوع في أخطاء الماضي.
هذا كلّه قد يكون زوبعةً في فنجان لا يؤثر قيدَ شعرَة من المشهد السوري؛ لو لم تتم مصالحة سورية على مستوى الشعب والأطياف، ولا خَيار لنا كسوريين سوى المصالحة، طبعًا مع محاسبة المجرمين الذين تلطّخت أياديهم بدماء الشعب السوري، وتمثّل هذه المصالحة الحقيقية والوطنية حلًا جذريًا يحاكي الواقع السوري بكلّ آلامه وويلاته، وبدايته تكون من المؤتمر الوطني السوري، الذي يجب أن يحفَظ ثلاثة أمور أساسيّة لهذه المرحلة الانتقالية:
١- مصالحة سورية.
٢- العمل الجاد على تأمين عملية الانتقال السياسي للسلطة تطبيقًا لقرار مجلس الأمن ٢٢٥٤.
٣- تأمين عَودة اللاجئين مِن دول اللجوء.
التدخل الإسرائيلي و"فوبيا" سيناريو النكسة
عكّر التدخّل الإسرائيلي في القنيطرة والجنوب السوري على السوريّين فرحَتهم، وهذا أكبر دليل على أن الأسد كان حاميًا لهذه الحدود، وأن شعارات الممانعة والمقاومة كانت تجاريّة بامتياز، وبعد هروب الديكتاتور؛ فقَدت إسرائيل حماية حدودها فدخلت منطقة فضّ الاشتباك لتكريس أمرين برأيي:
١- إعاقة عملية الانتقال السياسي للسلطة تطبيقًا لقرار مجلس الأمن ٢٢٥٤.
٢- تكريس فكرة الفدرالية والتّقسيم، والتشديد على الوَتَر الطائفي باستمالة الدروز، بالإضافة لدعمهم لقوات سوريا الديموقراطية المعروفة بـ "قسد"، المدعومة أمريكيًا أيضًا.
قد يكون هذا التدخّل مرحليًّا، وقد لا يكون هنالك أطماع بالبُعد الإسرائيلي، لكنّه بحدّ ذاته يستدعي القلق، ويضيف على كواهل السوريين مهامَ جسيمةً لاستعادة وطنهم المغتصب مِن الاستبداد والاحتلال، وحتى القوميّات..
ثلاثة مخاوف من المشهد السوري في قادم الأيام
التخوف الرئيس مِن تجربة الإسلام السياسي، وغياب أيّ دور للعلمانيين السياسيين، ومظاهر التشبّث بالسلطة، ما يخفّف مِن حجم التخوّف هو المناخ السوري الديني المتنوّع، وهذا قد يكون الثغرة الأقوى التي تحول دون تطبيق هكذا نهج، وأيضًا الأرضية السورية الشعبية والدينية والاجتماعية غير قابلة للتفاعل التماشي مع هكذا أفكار.
التخوّف الانتقامي على خلفيّة دينية، وهذا التخوّف أساسه على الطائفة العلويّة، التي كانت طرفًا في عملية القمع والاضطهاد منذ بداية الثورة، وشاهَدنا جميعًا مشهديّة الدخول للقرداحة وحَرق قَبر حافظ الأسد، وهذا التخوّف قد يتبدّد بمبادرة حقيقية لمصالحة سورية، على أسس مبدئية ووطنيّة تحت شعار "سوريا للسوريين".
التخوّف مِن الدعم التركي ومن النّهج الأردوغاني الإخونجي، فمن الغباء ألا ننظر كسوريين أن هنالك أطماعًا تركية في بلدنا، وأن المشاريع القادمة بمختلف تصنيفاتها وأيديولوجياتها قد يشوبها بعضٌ من ثقافة الهيمنة والوصاية.
سَقط النظام، ولم تَنتصر الثورة بَعد، ومِن بَعد كلّ هذا السرد والنظر في الواقع السوري، يتحتّم علينا كسوريين بدء العمل السياسي الجاد وشَحذ الهمم لبناء دولة للشعب السوري الذي طالب فيها بالصرخة الأولى، والإيمان بأن الشعب السوريّ واحد.
وما زال أمام السوريين الكثير والكثير من المصاعب والتحديّات، للوصول الجدّي لوطن يليق بأبنائه..
سوريا حرّة، وللأبد.