تؤدي حالات الطوارئ إلى خلخلة نظامنا الآمن، فتتولّد لدى الفرد مشاعر مثقلة بطبيعتها غير المريحة كالخوف والقلق والارتباك. يسعى الفرد نهايةً إلى استرداد شعوره بالسيطرة والأمان، وقدّ يمتدّ هذا المسعى حتّى بعد إخماد المرحلة الصّعبة. فالعودة إلى مجرى الحياة النّفسية لا يعود بالضّرورة مع عودة الأجواء الاقتصادية. فانقضاء العزاء مثلا، لا يعني بالضّرورة عودة الثّكل إلى توازنه النّفسي. وكذلك في الحرب وتداعياتها، لا يعني توقّفها توقّف الضّائقة. أضف إلى ذلك أنّ أحداث السّابع من أكتوبر لم تنته بعد. لذلك يحمل معنى الاسترداد مراحل كثيرة يُحَتَّم عبورها، وهي تتعلّق كذلك بعوامل خارجيّة وداخليّة ونفسيّة، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية. قد يساعد بعضها في تخفيف الوطأة ويزيد بعضها من تفاقمها. 

يمرّ الإنسان في الوضع الطبيعي بحالات صعود ونزول على الدوام، فحياة الفرد بطبعها مركّبة ودينامية، فإن لم تتقلّب بدافع الحالة الخارجية، تقلّبت بالدّاخلية أو الاثنتين معًا. فقد يسوء حال الفرد بسبب ضغوطات في عمله، أو مشكلات في علاقاته، أو مروره بأزمات اقتصاديّة، وهموم أخرى نفسيّة أو جسديّة. وكلّما تعمّقنا أكثر كلّما وجدنا كمّا هائلًا من الأحمال الثّقيلة على ظهره تزيد من تقوّسه. علاوةً على المركّبات الفرديّة، تلتقي المركّبات الاجتماعية مع حياة هذا الفرد وتجربته. فالحرب هي تجربة جماعية وفرديّة، تخوضها المجتمعات قسرًا ويخوض ذبذباتها الأفرادُ وهنًا، متأثرين بدورهم من الحرب فيما إذا كانوا ضحايا أو أقرباء أو قريبين منها (معنويًّا أو جسديًا)، وأيضًا إذا كانوا منتمين إلى الجماعات المتضرّرة، أو الجماعات المتفرّجة، أو الجماعات المؤيّدة، أو المعارضة، أو المعادية. 

نرى أنّ اختلاف التّجربة الفرديّة هو نتيجة اختلاف التّفاصيل، وبالضّرورة نقصد أنّ كلّ تفصيل يحمل معنىً وشكلًا وزمنًا ومكانًا مختلفًا لدى كلّ شخص منّا، حتى ولو بَدَت جميع تجاربنا متشابهة ومتطابقة. قد نرى أشخاصًا من نفس الجماعة يستجيبون بطرق مختلفة لنفس الحالة. ولكن، يظلّ المعدّل هو بوصلتنا، بطبيعة الحال، فمن المتوقّع أنّ يحزن الفرد في حالة الفقدان، ومع ذلك، يظل حزن كل فرد مختلف عن غيره مهما تشابها. يمكن القول إنّ المواطنين يخافون من حالة الحرب، فينفذون بأرواحهم وبأقربائهم. وكلّما زاد تشابه الفرد أو تعاطفه مع الجماعات المتضرّرة كلما زاد تأثّره وألمه على التّوالي. في حالات أخرى، كلّما تعرّض الفرد لمواد مؤلمة، عن طريق الإعلام مثلا، كلّما أصبح أكثر عرضة لاستجابات عاطفيّة صعبة، كالقلق والخوف والعصبية أو حتى تلقي صدمة ثانويّة نتيجة لها. 

يدور الحديث إذًا عن تجربة الأفراد التي يخوضونها، بدايّةً من داخل عالمهم الخاص، ومرورًا بالعالم العام والخارجي والاجتماعي والسياسي والثقافي والحضاري ثمّ عودةً إلى كل ذلك، فيأخذ شكل التجربة، منذ وقوعها، رسمًا لا نهائيا من البُثوق المتعاقبة من وإلى نقطة البداية - الفرد. يقودنا الحديث عن الحرب المؤلمة وتداعياتها الأكثر إيلامًا، إلى انبثاق تساؤلات كثيرة حول الأحداث وحول العالم والعدالة والقانون والحرية وحتى حول أنفسنا ورغباتنا ومصائرنا. تجمعنا التجربة الواحدة داخل قالب هائل من التجارب الفرديّة المُنصبّة في ذاك الحدث الواحد - الحرب. 

يعيش كل فرد تجربة حيّة بقدر كل فرد آخر، لذلك تتميّز فرادة التّجربة، لدى أيّ شخص، في حدوثها لذاتها معه هو، بغضّ النّظر عن السياقات الأخرى. ورغم التّشابه الشديد للخاصيّات، كالمشاعر والتفكير والتّعلم، إلّا أنّ لكلّ فرد تجربة تختلف بالضّرورة عن غيرها. فالمشاعر تحديدًا، هي خاصيّة طبيعية لدى الجميع، فلا يفتقر أحد إليها، بينما قد يختلف آخرون بشدّتها أو عفويّتها أو انضباطها. وحتى لو شَعر اثنان بالألم الجسدي أو يعانيان من نفس الاضطراب أو ذات المرض، إلّا أنّ كلّ واحد منهما يعيش تجربته هو وحده. لا بدّ للتعاطف أن يساعدنا على فهم تجارب الآخرين، حتى لو مرّرنا بذات تجاربهم، إلّا أنّه تظل فردانية التجربة هي صاحبة الحضور في النّهاية. 

وبالرغم من ذلك، تظلّ، أيضًا، حاجة الإنسان إلى الاحتواء والاحتضان عن طريق الوِحدة والجماعة والآخر المتعاطف، هي أوّل ما يعوزه وقت المحنة. لذلك، تقل شدّة الفرد حين يعلم ويشعر أنّه لا يعاني إحدى الوحدتين أو كليهما؛ وحدة بمعنى ألّا يراه أحد أو لا يرى معاناته، ووحدة في كونه الوحيد الذي يعاني.

ومن هنا تأتي ضرورة الحديث عن المتضرّرين من المآسي عامةً ومن الحرّب خاصّة. فإنّ خوف كلّ فرد من الحرب أمر شرعي، وإنّ صعوبة كلّ فرد في التّعامل مع تداعياتها لهي شرعيّة كذلك. وإنّ ما تقاسيه المرأة الثكلى في تجربتها القاسية، لا تتفوّق أو تقلّ عما يقاسيه الرّجل الثّاكل. وإنّ القتلى من المدنّيين هم الأطفال والنّساء والشيوخ وأيضًا الرّجال. ولا يجب أن تأخذنا قضايا المساواة والاختلاف بين الجنسين والتاريخ العريق للخطابات المختلفة حول موضوع النساء والمرأة والمكانة الاجتماعية، حيّزًا تُختزل فيه تجربة الأفراد في بعض الأجناس. 

تتعامل النساء بطبيعة الحال مع مركّبات اجتماعية أكثر منها لدى الرجال، وعلى مرّ العصور، تعرّفنا على مسيرة التّطورات المتنوعة التي شهدها الجنس البشري وتحديدًا المرأة. ولم تبخل علينا الحركات والتّيارات القديمة والحديثة في تشكيل رؤى أوسع لموقع المرأة كإنسان وكجندر في الحياة الاجتماعية. ومع هذا كلّه تظلّ تجربة كلّ امرأة مختلفة عن غيرها من النساء والرجال والناس جميعًا. 

بالطّبع تؤخذ بالحسبان العوامل والتأثيرات التي تقوّض من قوى الفرد- المرأة، حيث تضاف جميعها إلى التّجربة الفرديّة - الجماعية. فمن المهم التّذكير بما قد تقاسيه المرأة خاصّة في وقت الحرب، ابتداءً من اختلافات بيولوجية، كموعد الدّورة الشهريّة أو الحَمل أو الاقتراب من الولادة أو الولادة بعينها، وانتهاءً باختلافات اجتماعية كأن تحاول الحفاظ على لباس معيّن (متديّن) أو أن تهتمّ ببعض الأمور النّسائية الخاصّة. فإنّ ما تفعله الحرب، هو تكديس تلك الحاجات البشرية الطبيعية فوق حاجة البقاء والنّجاة، وبذلك تكون المرأة معرّضة إلى التّعامل مع حزمة مركّبّة من الصعوبات إلى جانب الحدث الجماعي. 

في المقابل، يقاسي الرّجل، أيضًا، صعوبة في المثول أمام توقّعات المجتمع (ونفسه) من وجوب دفاعه عن أفراد عائلته، والبحث عن المأوى وتحصيل اللقمة وحتى التّضحية بنفسه. تتعمد الخطابات والتصريحات العسكريّة والإعلامية اختزال المدنيين في النساء والأطفال والشيوخ، محمّلين بذلك الرجال المدنيين مسؤولية متخيَّلَة في كونهم جنودًا حتى ولو لم يكونوا كذلك، وعليه فإن تضحياتهم واجبة وقتلهم هو مجرد نتيجة حرب. يُقصى حقّ الرجال في الخوف والهلع وتُختزل معاناتهم لكونهم أشدّ قوّة وأجدر قتالًا. 

لذلك لا يدور الحديث حول الغَلبة في المعاناة، أيّ من يفوز بالألم الأكبر ويستحق الظهور على المنبر، وإنّما الغُلبة في معاناة الأفراد، أيّ في قهرهم وهمومهم وألمهم في محنتهم، وإنَّ جميعهم يستحقّون الإعلاء لصوتهم ولمعاناتهم. لذلك نحتاج حقًا إلى الاطّلاع على حاجات الأفراد ومحاولة تقديم المساعدة لكل شخص قدر احتياجه وقدر المستطاع. وعليه يجدر الحديث عن الجميع، والبحث عن أقصى الحلول الممكنة لإنقاذ أرواح الأفراد والمدنيين جميعًا من الأحداث الجارية ومن القادم المجهول. وليكن الله في عون الفاقدين والمُبتلين.


تصوير: بلال خالد.

نوّار مصاروة

متخصّصة نفسيّة علاجيّة، تعمل في مجال الصحّة، وتبحث في موضوعات النّفس والاجتماع

 

شاركونا رأيكن.م