أَطفال غزة: تَدَنّي التّعليم وانطِلاق التّفكير النّقديّ الحُرّ

كان مُقتَرَح المحرِّرة هو كتابة مقال عن النصف الأول من العنوان أعلاه، لكن كوني قد تابعتُ ما استطعت من أَدبٍ وتعليم في غزة خلال الحرب عليها، فقد أضَفت النصف الثاني.
- لماذا النصف الثاني؟
- لأنّ الجواب جاهِز عن حالة التعليم، فهو مِن الطبيعي أن يتراجَع، بسبب الحرب التي سَطَت على أرواح الطلبة وأهاليهم، وأعضائهم، ومدارسهم؛ فكيف سيكون هناك تعلُّم متدرّج مِن مفاهيم إلى مفاهيم متعمِّقة ومفصَّلة حسب العمر، من صف إلى آخر؟ فقد أصيبت العملية التعليمية في مَقتل خلال عام ونصف عام، فالكِفايات التعليمية مرتبطة معًا، ولا بدّ من تعليمها بشَكل متسلسل، لأن فَهْم الطالب موادَ الصف الذي هو فيه يرتبط بما قبله، والذي يحتاج إلى زمن معَيّن.
تتحدّث التقارير الوطنية والدولية عن مأساة أطفال غزة في كلّ مناحي الحياة، ومنها التعليم، لكنّها أيضًا تتحدث عما يُشبه المُعجزة، وهو استمرار التعليم عن بُعد وعن قُرب في الخِيَم، والذي يستمر رغم العودة إلى المدارس التي بقيت، حيث افتتح العام الدراسي متأخرًا، بَعد هامش وقف إطلاق النار.
قَبل الدخول إلى التعليم، لَعَلّي أذكر ما يَخُص التفكير والشعور في غزة، من خلال ما واكبتُه في الكتابات التي وصلتنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كذلك اللوحات الفنّية.
شكَّلت الحَرب على شعبنا في غزة، كبارًا وصغارًا، صدمةً لم تَقِف عند دماء المدنيّين الأبرياء فقط، بل امتدت نحو العُقول والقُلوب. مِن ذلك فملاحَظَتي النقدية، أن هناك صفحة جديدة تُكتَب عن تحرّر الغزّيين/ات في التّفكير، وممارسة الحرّية مضمونًا وشكلًا، من باب (ربما) أنّ مَن في الحرب تحت القصف، واحتمال التعرّض للموت أو الإصابة، لم يَعُد يكترث لقيود الآخرين، فكانت جرأة النصوص الصادمة لعقليّتنا التقليدية المُحافِظة قادمة مِن هنا، لا لمجرّد تكلّف نصوص غير تقليدية.
واكبت ذلك فيديوهات الأطفال مِنَ اليوم الأول للحرب، التي حَمَلَت رغم الوجع مَرَحًا خاصًا، وسخرية مِمّن يحاربون غزة، حيث أظهر هؤلاء البَقاء الإبداعي المُقاوم لشعبنا في قطاع غزة.
لقد أظهر أطفال غزة نبوغًا وذكاء مميزًا للمعلمين/ت الذي يعلّمونهم عن بُعد، كذلك أظهروا تقديرهم للتعليم وأبدَوا فرحتهم في هذه الفرصة؛ أيّ التعلم الافتراضي. لقد عَلِمت بذلك من معلمات ومعلمين مِن الضفة الغربية، دُهِشوا مِن مستوى تفكير طلبة غزة وقوّة شخصيّاتهم وطيبة قلوبهم.
شخصيًّا، كانت فرحتي بهم كبيرة حين تمّت استضافتي ككاتب قبل أشهر في أحد الصفوف الافتراضية، حيث فوجئت بأنّهم كانوا قد بحثوا عنّي عبر محرك الغوغل، فكانت أسئلتهم لي مُدهِشة، غير نَمَطيّة، والغريب أن مَن كان بإمكانه مشاهدة اللقاء، سيصعب عليه معرفة أن هؤلاء أطفال يعيشون أقسى حربٍ عرفتها البشريّة.
لا يمكن سَماع كلمة أطفال غزة أو تلاميذها دون تذكّر كلمات قصيدة نزار قباني التي ظَهَرت في الانتفاضة الأولى عام 1987. لكنّها اليوم تحضُر ليس فقط بالمعنى النذضالي بل بالمعنى التحرّري الفكري بشكل خاص:
يا تلاميذ غزة
علّمونا بعض ما عندكم فنحن نَسينا
قد صَغُرنا أمامكم ألفَ قرن
وكَبُرتم خلال شَهرٍ قرونا
الحَقّ مع نزار، فإننا هنا وفي بلادنا العربية، وبلاد كثيرة، صِرنا نتعلّم من غزة، من كبارها وصغارها بشكل خاص، الذين بسبب الحَرب "كبروا قرونًا"، بما اختبروه وتألّموه، ومِن قُدرتهم على التكيّف والبقاء أحياء رغم كلّ أسباب الموت.
ولعل نزار قباني الذي انتقد المنظومات العربية، يَحضُر اليوم بقوة:
يا تلاميذ غزة
لا تعودوا لكتاباتنا ولا تقرأونا
نحن آباؤكم فلا تشبهونا
حرّرونا من عقدة الخوف فينا
واطردوا من رؤوسنا الأفيونا
إنه الفكر التحرّري، الذي -كما نلاحظ- بدأ يأخذ مكانه لدى أطفال قطاع غزة، وأطفال الضفة الغربية، التي تتعرض أيضًا لحرب مستمرة، في المخيمات والمدن والقرى، بتفاوت الوحشيّة من مكان إلى آخر. بل إن ما يعيشه أطفال فلسطين اليوم، يعيشه أطفال لبنان، خاصة الجنوب، كذلك أطفال سوريا، كذلك الحال مع أطفال اليمن والعراق، بل أطفال الدول التي مرّت بتحوّلات سياسية عنيفة أو أقل عنفًا.
إن ما يَحدث في غزة، صار يؤثّر على المحيط العربي، خصوصًا على الأجيال الشابّة، ومنهم الأطفال؛ وبذلك فإننا أمام حالة شعور وتفكير ستفضي إلى تحولات جديدة في هذه البلاد.
من ناحية أخرى، تابَعْنا عن بعض ابتكارات أطفال غزة العلميّة، مِن باب حرمان الاحتلال غزة من الخدمات، فكما قيل "الحاجة أم الاختراع"، بل يمكن استقصاء الاختراعات التي أبدعها أطفال غزة وفتيانها، بما يجعلنا أمام التفكير العلمي والتفكير الاجتماعي معًا، الذي يتعمّق خلال تحمُّل الأطفال والفتيات/ات مسؤوليات ثقال في ظلّ الحاجة من جهة، وفي ظل فقدان مُعيلي الأُسر. ولعل ذلك ما يعني "البقاء" بأعظم تجلياته عبر التمسك بالوطن ورفض الهجرة:
علمونا فنّ التشبّث بالأرض
ولا تتركوا المسيح حزينا
هي منظومة إذن تَربط البشر، والأطفال منهم، بالأرض، التي باتوا يعرفون معنى الوقوف عليها بقوة، فكل بقعة أرض تعني بقعة في السماء، وهذا يعني المعنى الأصيل للوطن. لذلك يهتف نزار لهذا المعنى من خلال "ثورة الدفاتر والحبر" منذ 40 عامًا:
مِن شقوق الأرض الخراب
طلعتم وزرعتم جراحنا نِسرينا
هذه ثورة الدفاتر والحبر
المختلف دخول "السوشيال ميديا".
من هنا، يمكننا تأمل النصف الثاني من عنوان المقال: "انطلاق التّفكير النّقدي الحرّ"، حيث أن الظروف صَقَلت التعلّم لدى أطفال غزة، فصاروا يتعلّمون بعيدًا عن التّعليم التقليدي في واقع الحياة، ما يَعني أن هذا السلوك انتقل معهم إلى المدرسة واقعًا وجاهيًّا وافتراضيًّا.
في أوائل التسعينيات، تمّ الحديث في فلسطين عن "التعلّم الفعّال" كبديل للتعليم، لكنّه بالرغم من مرور عقودٍ ثلاثة، لم ينجح فعليًّا كما كان التوقُّع، أما السبب فكان أن المعلمين غير مدرَّبين على استخدام التعلُّم الفعّال خلال عملية التّعليم. واليوم، وخلال فترة الحرب، أصبح طلبة غزة يتعلّمون بفعالية عالية في الحياة والمدرسة. كذلك توفرت الفرصة الآن لدى المعلمين/ات لاستخدام التعلُّم الفعّال، لأنهم هم أيضًا تعرّضوا لصدمة فكرية واجتماعية واقتصادية ووجودية.
إن تَدنّي التعليم يمكن الارتقاء به، لكن في ظلّ غياب التفكير فإن من الصّعب خَلقه!
وأخيرًا صار طلبة غزة وفلسطين معلمين!
تلك نبوءة نزار قباني.
في آخر قصيدة نزار قباني، يذكر بأن عصر الاحتلال:
وَهْم سوف ينهار
لو مَلَكنا اليقينا
والظن أن فلسطين تملِكه، وفي طليعتها الأطفال.

تحسين يقين
تربوي خبير في المناهج، وهو كاتب وناقد أدبي وفني. يركز في كتاباته على العلاقات البينية بين التعليم، وحقول المعرفة، والأدب، والفن ، مقيم في القدس