نماذج عائلية غير تقليدية في أدب الأطفال
يُصوّر أدب الأطفال الكلاسيكي الأسرة كوحدة نووية تتكون من الأب والأم والابن أو الابنة. ومع ذلك، فإن هذا التصوير لا يعكس بدقة الواقع المألوف لغالبية العائلات في المجتمع الحديث. في عالمنا اليوم، تأتي العائلات بأشكال متنوعة، بما في ذلك عائلات أحادية الوالدية (بسبب انفصال، طلاق، وفاة أو أي نوع آخر من غياب أحد الوالدين)، أو عائلات تبنّي، أو عائلات أحادية الجنس - عائلات مِثلية، والعشرات من الأنواع الأسرية الأخرى التي لا تندرج تحت الوحدة النووية التقليدية – أب-أم-طفل. في سياق محلي لهذه الظواهر الأسرية، نذكر أنه في عام 2019 "دلت المؤشرات أن 40% من حالات الزواج وعقد القران تنتهي بالطلاق"[1]، والعائلات الأحادية تبلغ 11% من العائلات في المجتمع العربي في البلاد[2]. عرض هذه الظاهرة وتغيّراتها على مفهوم الأسرة، هو وصف اجتماعي وغير قِيمِي بأي مفهوم في هذا الادعاء.
بالذات بسبب حضور هذا التنوّع الكبير في المجتمع البشري المعاصر، من الضروري أن يتطور أدب الأطفال ويتبنى هذه التمثيلات العائلية الحديثة عالميًا، مما يوفر للقراء الأطفال انعكاسًا أكثر واقعية وشمولية للعالم الذي يعيشون فيه، بل أكثر من ذلك – فهو يعرض أمامهم امكانية تقبّل الآخر مهما كانت ظروفه الأسرية. في أدب الأطفال المعاصر، خضع مفهوم "الأسرة" لتحول كبير يعكس الطبيعة المتنوعة والديناميكية للمجتمع الحديث. ولّت الأيام التي كانت فيها العائلات النووية التقليدية هي المحور الحصري والوحيد لكتب الأطفال. نشهد اليوم موجة كبيرة موزونة من الشمولية والتعددية بالأنواع العائلية، حيث يحتضن المؤلفون والرسامون جمالية التعددية وتعقيد الهياكل العائلية الحديثة. تقدم هذه الكتب للقراء الصغار نسيجًا غنيًا من العائلات المختلطة، والأسر الأحادية وذات العائل الواحد، وحتى المثلية.
أسرة واحدة في بيتين
من الملحوظ الازدياد في كتب الأطفال المعاصرة حول استكشاف العائلات ذات الوالدين المطلقين أو المنفصلين. توفر هذه الكتب الراحة النفسية والطمأنينة للأطفال الذين قد يواجهون التحديات والتعقيدات العاطفية التي تنشأ عن انفصال والديهم. من خلال تصوير الشخصيات التي تتنقل في التحولات والتعديلات التي تأتي مع الطلاق، توفر هذه القصص مساحة آمنة للأطفال لمعالجة مشاعرهم، وتعزيز المرونة والرفاهية العاطفية. أمثلة بارزة على هذا النوع من القصص، نجده في قصتان شاركتا في مسابقة "إتصالات لأدب الأطفال"; الأولى هي قصة "لي بدل البيت بيتان" من تأليف لوركا سبيتي ورسومات منى يقظان (دار الساقي)، التي فازت بجائزة أحسن كتاب لعام 2017، والثانية هي قصة "إلى لقاء" للكاتبة نبيهة المحيدلي ورسم لجين أصيل (دار الحدائق).
تطرح "لي بدل البيت بيتان" فكرة الطلاق من وجهة نظر الطفل الذي يشغله سبب شجار والديه المتواصل: "ماما وبابا يتشاجران كالعادة ويصرخان بصوت عال"، ثم بعد أن تشرح له أمه فكرة الطلاق ومعناها، يتساءل عن المفهوم المجتمعي: "ولكن ماذا سأقول لأصدقائي في صفي". يتعامل الكتاب مع الطلاق بطريقة مباشرة جدًا، ولا تخلو من التلقين: "يخبرني بابا بأن الطلاق ليس عيبًا ويمكنني أن أخبر أصدقائي ان أردت ذلك". لكن رسومات الكتاب تساعد كثيرًا على خلق جو من التعاطف الذي يوفّر للطفل القارئ فهم أعماق لاسقاطات الحدث الموصوع في الكتاب. كتاب "إلى اللقاء"، يعرض الطلاق بطريقة مجازية أكثر من خلال توضيح عدم التوافق بين الأبوين كما لو كان عدم توافق بين قطعتين تركيب بازل. في هذا الكتاب كذلك تتمكن الرسومات من أخذ القارئ أبعد بكثير من النص ذاته حيث نرى الألوان تزداد كلما ازداد فهم الطفلة البطلة لواقع الحياة الجديد الذي تعيشه في بيتين.
كتاب آخر صدر مؤخرًا يعرض الطلاق بطريقة مميّزة هو كتاب "عاقد الحاجبين" من تأليف ميسون أبو الهيجاء ورسومات نجاة عبد النبي (اصدار دفيئة حكايا). يركّز "عاقد الحاجبين" صوته على الطفل بضمير المتكلم، الذي يشارك القارئ بتردداته وسبب عقده لحاجبيه. بين ما يضيفه الكتاب بطريقة ذكية ومدروسة، هي مشاعر الطفل بالذنب والمسؤولية كونه ما زال صغيرا وغير قادر على تقديم يد العون لحل الخلاف بين والديه. يتعامل الكتاب مع هذه المشاعر ويقترح بدائل لحل "عقدة" الحاجبين.
قصص عادية عن عائلات غير تقليدية
بالإضافة إلى ذلك، يتم تمثيل الأسر ذات العائل الواحد بشكل متزايد في أدب الأطفال، مما يعكس واقع العديد من العائلات اليوم. تُظهر هذه القصص القوة والحب والبراعة للوالدين الوحيدين أثناء تنقلهم في نضالات تربية الأطفال بمفردهم. من خلال تسليط الضوء على الديناميكيات الفريدة داخل هذه العائلات، تساعد هذه القصص الأطفال على فهم وتقدير الأشكال المتنوعة التي يمكن أن يتخذها الحب والدعم الأسري.
في دراسة شاملة[3] أجرتها خولة أبو بكر مع رافع يحيى حول انعكاس صورة الأسرة في أدب الأطفال العربي، يقترحون أنه: "لم يتطرق الكُتاب العرب للمواضيع والعلاقات الحساسة داخل الأسرة إلا نادرًا: مثل زوجة الأب، الطلاق، زواج المرأة الأرملة وعلاقتها بأطفالها.."، ويأتون بأمثلة معدودة لكتب من تأليف عبد التواب يوسف، مثل: "أم وبنت" (1995)، "زوجة أبي" (1995)، "أب واحد" (1996). ومعظم هذه الكتب لا تتطرق إلى العائلة الأحادية بشكل مباشر، بل إلى العائلة التي فقدت أحد أفرادها واستبدله آخر.
إلا أنه بهذا السياق لابد من الذكر بأن أدب الأطفال الذي يعالج قضايا العائلات الأحادية هو أدب أطفال اعتيادي بمعظمه، أن أنه في معظم الحالات ليس موجهًا لمعالجة هذه القضايا، بل أنه يعرضها بطريقة طبيعية وهامشية، وحتى أحيانًا دون ذكرها أو التطرق إليها بشكل مباشر. مثلًا قصة بينوكيو الذي يترعرع عند النجار جيبيتو، ليكبر معه كابن في عائلة أحادية. أو مثال أبرز هو قصة ليلى الحمراء التقليدية، التي تحكي قصة عائلة أحادية في معظم صياغاتها، حيث ليس هناك أي ذكر لدور الأب أو لشخصيته، فالأم هي من تربي الطفلة الصغيرة وهي من يرسلها إلى الغابة لزيارة جدتها وليس هناك أي تطرق إلى الأب. عادة عندما يسأل الأطفال "أين أبوها؟"، نجيبهم أنه في العمل، ولكن هل من الممكن أن يكون متوفي؟ أو منفصل عن العائلة؟ أو حتى أنه غير وارد في سياق هذه العائلة، أي أن الأم قامت بولادة طفلتها خارج الزواج؟ بما معناه، فكافة القصص التي تذكر عائل واحد ووحيد، يمكنها أن تتحوّل وتُعرض ككتب مناسبة لعرض عائلات أحادية، حتى لو لم يكن هذا هو سياقها. ومثل ليلى الحمراء، هناك العشرات من أبطال القصص وبطلاتها التي نعرفهم دون أن نعرف شيء عن أهاليهم سوا.
مشمول بهذا السياق كذلك أدب الأيتام الذي يمثّل عشرات القصص الشهيرة، من بيتر بان، وهاري بوتر، ودوروثي (ساحر أوز)، وطرزان، وماوكلي وغيرهم الكثير. التيتم في أدب الأطفال هو أولًا وقبل كل شيء، حاجة حبكية عند المؤلفين لسلخ الأبطال عن عائلاتهم وأهاليهم. حاجة السلخ الأسري هذه تأتي لأن الأهالي في الأدب يمثلون الثقة والطمأنينة والأمان للأطفال، وان كانت هناك كل هذه الظروف، فكيف يمكننا أن نحكي قصة فيها تهديد على حياة البطل الطفل؟ لهذا نحن بحاجة لنزع الأمان من خلال نزع الأهالي وخلق عائلات جديدة فيها تبنّي أو دور أيتام.
العائلات المثلية: تابو للبالغين، فطري للأطفال
موضوع العائلات المثلية في ثقافة الأطفال عامةً هو بلا شك أحد أكثر المواضيع المثيرة للجدل. من جهة تتعامل معه المجتمعات المحافظة بتجاهل مطلق أو برفض قطعي، بينما ثقافة الأطفال المعاصرة تحتضن تمثيله في شتّى تمثيلاته، من عائلات فيها عائلين من ذات الجنس، أو أطفال ذوي ميول مثلي. أذكر هنا "ثقافة الأطفال" بدلًا عن "أدب الأطفال"، لأن سياق هذه الثيمة منتشر أكثر في سينما الأطفال مما هو في أدبهم. آخر مثال جاء في فيلم الأطفال "باظ يطير" (Lightyear) الصادر عام 2022.
أحد أبرز كتب الأطفال العالمية التي تعالج موضوع العائلات المثلية، هو كتاب "ومع تانغو صرنا ثلاث" (And Tango Makes Three)، الذي يحكي قصة البطريقين الذكور، روي وسايلو، اللذان لم يجدا بطريقات للتزاوج في موسم تزاوج البطاريق في حديقة الحيوانات في مدينة نيويورك، لأنهما فضلا قضاء وقتهما معًا. في أحد أيام موسم التزاوج، يجد أحد المُربّين في حديقة الحيوانات بيضة بطريق متروكة، فيعطيها للبطريقان روي وسايلو، وهما بدورهما يعتنيان فيها ويرقدان عليها، كما تفعل باقي أزواج البطاريق في الحديقة، حتى تفقّص. هكذا تولد البطريقة الصغيرة تانغو، ومعها عائلة بطاريق مِثلية في حديقة الحيوانات في نيويورك. في الصفحة الأخيرة من الكتاب، يكتشف القارئ أن القصة التي قرأها ليست خيالية، بل هي قصة واقعية حصلت بالفعل في حديقة الحيوانات في نيويورك[4].
لكن ان فكرّنا في الموضوع بطريقة أعمق، نجد أن ثقافة الأطفال لم تتعامل مع هذا الموضوع بطريقة تمركزه أو تفرضه أبدًا، بل لطالما عرضته بطريقة طبيعية وفطرية، حتى السنوات الأخيرة. أبرز مثالين على ذلك نجدهم في الفيلمين اللذان ترعرع معظم القراء عليهم هما: "كتاب الأدغال"(1967) و"الأسد الملك" (1994). في كلا الفيلمين نجد الأبطال، ماوكلي وسيمبا، ينفصلان عن عائلتيهما النواتية، ويتم تبنّيهم على يد عائلات مثلية ذكرية جديدة. ماوكلي يتربّى على يدي الفهد الأسود باغيرا والدب بالو، وسيمبا على يد الخنزير بومبا والسرقاط تيمون. حتى لو لم نتنبه لهذا السياق سابقًا، وتعاملنا معه بطريقة فطرية، إلا أن العائلية الحميمية والقلق الذي حصل في تبنّي ماوكلي وسيمبا هو عائلي أسري بحذافيره. باغيرا وبالو يناقشان في الفيلم مواقف ومناهج تربوية مختلفة في تربية ابنهم المتبنّى، وتيمون وبومبا يتفقان على معظم الأمور بعد أن ناقشا التبنّي عند لقاء سيمبا لأول مرة في الصحراء، ويعلمانه منهج الهاكونا ماتاتا - فلسفة حياتهم.
يمكن الإطالة كثيرًا بمحاولة فهم سر مرور هذه العائلات المثلية بطريقة فطرية وطبيعية لكافة المشاهدين، ولكن هذه بالضبط هي الطريقة التي يتم فيها التعامل مع العائلات غير التقليدية عند الأطفال. العائلة بالنسبة للأطفال لا تتعلّق بجنس ونوع وصنف أي فرد منها، بل تتعلّق بالمشاعر والأمان والحب والحميمية التي بقدرتها توفيرها لكافة أفرادها. وهذا صحيح لكافة التعدديات الأسرية الغير تقليدية التي ذكرتها حتى الآن.
[1] "40% من حالات الزواج وعقد القران في المجتمع العربي تنتهي بالطلاق"، 31.1.2019. محمد محسن وتد، عرب 48.
[2] "معطيات رسمية: الأسر العربية في أرقام"، 4.2.2019. عرب 48.
[3] "انعكاس صورة الأسرة في أدب الأطفال العربي وتأثيره على التنشئة الاجتماعية" (2015) أبو بكر، خ. ويحيى، ر. المجمع، العدد 9، ص 1-26.
[4] "New Love Breaks Up a 6-Year Relationship at the Zoo" (2005-09-24). Miller, Jonathan. The New York Times.