نكبة الآن: مصائر الجسد الفلسطينيّ
تلتحم النّكبةَ في غزّة بمفارقة معناها الصاعق: القتل الجماعيّ المتكرر لحياة فلسطينيّة لا تموت. حياة جريحة وصريحة في التعبير عن رغبتها الجارفة بالحياة وبالحرّية. حياة لا تصمت، بل تقول ما يقوله المعذّبون في الأرض: لا يُهزم مستعمَرٌ يثور ويتألّم ويفكّر ويتكلّم ويكتب. ويحبّ. حياة باتت تُعرَف، في زمن المذبحة، من أشلائها ودمائها وجسدانيّتها المُمزّقة والمُستباحة. تَفجَعُنا مصائر الجسد الفلسطينيّ الذي طالما كان، بحيويته الإعجازيّة وباستعصائه الملغِز على الموت، موضوعَ هَوَسٍ استعماريٍّ حقود وحسود بَلَغَ في غزّة مبلغاً وحشياً مرعباً. يَحفُر العنف الاستعماريّ فيه ويسحقه بمنهجيّة جهنميّة وكأنهّ يريد أن يحيله غباراً. يُطرد الفلسطينيّ ليس من المكان فحسب وإنّما من جسِدهِ أيضاً. يطالب الفلسطينيّ أن يغادر جسدَه وأن يفرغَه تماماً من الحياة الرمزيّة التي تجعل من حياته وموته فكرةً وراية. جسدٌ يُحرم من اسمِه، ومن بيتِه ومن موته الطبيعيّ وحتّى من حزن الآخرين عليه، ويُحشر في معازل جماعية أو في مقابر جماعيّة.
يَسكن المستعمَر جسداً لا يمكنه أن يسمّيه بيتاً، يقول اشيل مبيبي، الفيلسوف الكاميروني. بل هو مختبر كابوسيّ للاغتراب والعذاب ولأحدث تكنولوجيّات الإماتة والتهجير. النكبة في جوهرها مشروع نفي وتهجير شامل. تهجير الفلسطينيّ من حياته، من أرضه، من لغته، من جسده، من إنسانيته ومن ذاتيّته. هي نتاج عقيدة جنّ جنونها (الاستعمار حالة من الجنون، يقول فانون) وباتت ملامحها الفاشيّة أكثر وضوحاً وشراسَةً. منظومة تكرّس واقعاً صدميّاً من اللا أنْسَنة والتغريب يحبِسُ الذات المستعمَرة في موقع الآخر الذي يستجدي إنسانيّتَه: "احنا بشر يا ناس"، "انا انسان"، "وين حقوق الإنسان"؟
رغم معايشة الفلسطينيين ومقاومتهم الطويلة لهذا الواقع الصدميّ المعقّد والطافح بالموت الجماعي العنيف وبالفقدانات والخسارات والتهديدات الوجوديّة، تصدمهم الحرب على غزّة بشكل غير مسبوق، وتسلبُهم تماماً ثقتَهم بعدلٍ إنسانيّ يكيل بمكيالين ويشيح بنظره عن الحياة الفلسطينيّة ويتركها تُقصف و ُقتل وتُهان داخل الشاشات وخارجها. تختبرهم الحرب الراهنة بما لا يحتمل: أن يفتحوا أعينهم وأن يظلوا أحياء وفي تمام إنسانيتهم أمام كلّ هذا القتل وكلّ هذا الشّقاء وكلّ هذه الشرّ.
بينما تنظر محكمة العدل الدوليّة في مسألة تصنيف التوحّش العسكري في غزّة إبادةً جماعيّةً، ثمّة حرب إبادة نفسيّة لم تتوقّف يوماً، إبادة ذاتيّة الفلسطينيّ ومحو إنسانيّته، وتحطيم كينونته وتدمير صحّته النفسية وإحباط سعيه إلى الحرّية. لا يكتفي الاستعمار بالعنف العسكري والسياسي، وإنما يلجأ إلى هندسة وعي المستعمَر وتقويض إنسانيّتّه وهويته الثقافية والقوميّة. لذا من منظور التحليل النّفسي التحرّري يجب النظر إلى النكبة المستمرّة والعابرة للأجيال من موقع مضاد للخطاب الاستعماريّ، أي تحليل علاقات القوة واستحضار الأصوات المهمّشة واستكشاف الاغتراب والاستلاب والتماهيات المزيّفة التي تغذّي المعاناة النفسية للذات الفلسطينيّة. من جهة، يقول فانون، التحليل النّفسي هو أداة لفهم وعلاج آثار العنف الاستعماري على نفس الإنسان المستعمَر لكن هناك حاجة ايضاً، من جهة أخرى، لتحليل وتغيير الواقع السياسي الذي ينتج الجرح الاستعماري. وعليه فعل الشفاء النفسيّ يجب أن يكون مقروناً بفعل سياسيّ. لا علاج نفسيّ لجرح النّكبة العابر للأجيال دون تحرّر. هذا ما تقوله غزّة.
الصورة: للمصوّر بلال خالد.
د. مصطفى قصقصي
اختصاصيّ نفسيّ عياديّ ومعالج نفسيّ ومؤسِّس مشارِك و رئيس سابق لرابطة السّيكولوجيّين العرب