لستُ لاجئاً، فلم أخسر أرضي، ولا بيتي، ولكنني فلسطينيٌ خسرت وطني، وبالتالي مشاعري مشتركة مع كل هؤلاء الذين شردوا أو استشهدوا أو خسروا أرضهم، بعضها، أم كلها. ولستُ نازحاً لأتلو عليكم قصص نزوح عائلتي، أو جيرانهم، أو أقاربهم، أو لأرفق لكم صورة مفتاح بيتنا الحديدي القديم، ولكنني فلسطينيٌ، سمعتُ من القصص الكثير، ولكنني فلسطينيٌ أستطيع إعطاءكم ما تودّون من السيناريوهات القادمة. صدّقوني إن نظرتم للأمر من عينِ مخرج أفلامٍ بوليووديةٍ، هوليووديةٍ، مائيريةٍ، شارونيةٍ، نتنياهويةٍ، باراكيةٍ، ستدركون أن النصّ لم يتغير، والحبكة لم تتغير، ولكن الشخصيات الرئيسة تتغير، بفعل الموتِ، أو الاستقالة من الحياة السياسية، أو لأي سببٍ أخر.

ولكنني فلسطينيٌ حفيدُ الخضر الأكبر من أولاده الذكور، الذي سميّ تيمناً بخضار هذه البلاد، وبرفيق سيدنا موسى عليه السلام، والذي سرد عليّ معاصرته للنكبة عندما كان في الثالثة عشرةَ من عمره، واستقباله للّاجئين من اللد والرملة في بيت أمه المتواضع في بلعين، قبل أن يرحلَ عن وجه الدنيا منذ عامين. وإنني أيضاً الحفيدُ الأكبر للابن الأكبر للجدة العائشة التي قصّت علينا سرديتها مع العثمانيين ثم البريطان ثم الإسرائيليين، فالأردنيين، فمنظمة التحرير، فالسلطة الفلسطينية.... وارتحلت تحت شجرة التوت المشهورة في بيتها القديم، المتاخم لمقام شيخ العائلة التقي ياسين قبل أربعةٍ وعشرين عاماً!

ترسم هذه المقالة طريقاً مهماً لاستعمال فنجان القهوةِ في دلالتين مختلفتين، إحداهما أدّت لاحتلال البلاد، أو بالأحرى تسليمها للحركات الاستعمارية المختلفة، آخرها، أتباعُ هرتسل... وأُخراها فنجانٌ أدّى إلى غليانٍ عالٍ، قامت الدنيا بسببها ولم تقعد. وفي خضم كتابة هذه المقالة استهلكت كمياتٍ كبيرة من مسكنات الآلام لأستطيع الاستمرار بالكتابة!

ولكن دعوني أبوح لكم بسرٍ بسيط. لا أحب القهوة، الحلو منها أو المر!

فنجان قهوةٍ ما قبل النكبة

لطالما كانت العُربان، أي عرب البادية، تتغنى بطقوس القهوة، فمن المحرمات عدم تقديمها للضيف، وعلى الضيف شربها، بكل الأحوال باستثناء حالتين:

الأولى: هناك عداوةٌ بين الضيف والمضيف، وبالتالي لا تُشرب القهوة إلا بانتهاء هذه العداوة، أو الوصول لحلٍ ما.

الثانية: أن يكون للضيف طلبٌ ما عند المضيف، غالباً ما يكون مهماً، قوياً، وبالتالي لا يشرب المضيف القهوة إلا عند تلبية الضيف لطلباته.

وأخذاً بعين الاعتبار كل العار الذي قد يلحق بهذا المضيف في حالة عدم تلبية ما جاء ضيفه من أجله، فقد كان المضيف مجبوراً على قبول هذه الطلبات. وفي الحقيقة، أريدكم أن تتخيلوا معي هنا كمية فناجين القهوة التي شربها كل مؤسسي الحركة الصهيونية، وكل رؤساء وزراء اسرائيل من بعدها مع كل شخصٍ يؤمن بعادات القهوة عند العُربان! وإذا أخذتم خريطة الوطن العربي، ونظرتم لكمية العربان الموجودة فيها، ستفهمون لمَ حصلت النكبة، ولماذا ما زالت مستمرة! عربانٌ منهم يلبس البدلات الإيطالية، وآخرون يلبسون حطةً وعقالاً ودشداشاً، وأنعمهم الله، أو قد يكون نقمهم، بآبار نفطٍ لا تنفد!

وكل ما أتمناه الآن، ألا يسيء العربان الطيبيون الأصيلون أصحاب المبادئ والشرف فهم أو تحليل ما كُتب أعلاه!

وكما قال شاعرنا تميم في قصيدته "ستون عاماً"، في الذكرى الستون للنكبة: "لقد عرفنا الغزاة قبلكم، ونشهد الله فيكم البدع، ستون عاماً وما بكم خجلُ، الموت فينا، وفيكم الفزع، أخزاكم الله في الغزاة، فما رأى الورى مثلكم ولا سمعوا.... حين الشعوب انتقت أعاديها، لم نشهد القرعة التي اقترعوا!"

فنجانُ قهوةٍ بعد النكبة

أما الحالةُ الثانية التي أحاول جاهداً تصويرها لكُم تتمحور حول تغيّر معتقداتي ومفاهيمي المتجذرة الأصيلة حول القهوة! هناك في الشمال، أي شماليّ فلسطين المحتلةِ عام 1948، يقعُ جزءٌ من منطقة الجليل، منها جليلٌ أعلى، ومنها جليلٌ أسفل، ومنها غربيٌ...تصنيفاتٌ جغرافية، لا أكترثُ لكل تفاصيلها حقيقةً. وإذا كنت تتساءل أين يقع الجزء الآخر من الجليل، فهو في جنوب لبنان، أي النبطية، وبنت جبيل، وصور، وغيرها..

وفي الجليل الأسفل، تقع ثلاث مناطق، يا دامَ عزُك، تشكل مثلثاً حصيناً منيعاً، أطلق عليه مثلث يوم الأرض، أكاد أجزمُ أنهم يستهلكون القهوةَ بطريقةٍ لم أشهد لها مثيلاً في أيٍ من بلدات هذا الوطنِ الغريب العجيب.

ولستُ بصدد التطرق لمثلث يوم الأرض وأحداثه وتفاصيله التاريخية، ولكنني أعلم الآن، أن من خطط لأحد أهم الأحداث التاريخية في الجليل السفلي، وأحد أهم النضالات التي أوقفت مخططاً كان مرسوماً لاستكمال مشروع النكبة (جرّاء تضييف كوب القهوة الأول عند العربان)، خطط لهذا النضال خلال شرب فنجان قهوة! وشتانَ ما بينَ ضيافة كوب القهوة الأول، وضيافة كوب القهوة الثاني.

وهناك في الجليل، قريةٌ، أو مدينةٌ كما يصنفونها الآن، تدعى "عرّابة" أو "على الرابية" أي على التلة، سكنها ظاهر العمر الزيداني قديماً، أحد أهم حكام فلسطين خلال الفترة العثمانية، والتي انشق عنها، وقتل فيما بعد... وتسكن في هذه القرية إحدى العائلاتِ المنسوبة للكنعانيين الأصليين، أطلقوا على نفسهم اسم "الكناعنة". والقارئ أو السامعُ عن الكناعنةِ يعلم جيداً أنهم أصحابُ مبادئ أصيلةٍ اتخذت من الأرض لها موطناً، ومن اسم عائلتهم مسكناً، وساهموا وساعدوا مع الكثيرين ممن والاهم في مجابهة أحد أقذر مخططات السيطرة على الأرض!

هناك عند الكناعنةِ، فنجانُ قهوةٍ لا ينفد، فإن زرتهم سائلاً أي شيءٍ، تشرب قهوتك أولاً، فإن أعجبهم سؤالك، أعدّوا لك غداءً، وفنجاناً آخر من القهوة، وإن لم يعجبهم سؤالك، يأذنون لك بالانصراف، وعدم العودة بتاتاً... فلا مساومةَ لديهم على فنجان القهوة!

وهناك في عرابة، وعند الكناعنة تحديداً، تعلمتُ ثقافةَ القهوة... وثقافة السياسية، وثقافة حب الأرض، وثقافة الحب، والتسامح. وهناك عند الكناعنة استمعت لقصص يوم الأرض، في جلسةِ سمرٍ فيها فنجانُ قهوة!

وهناك في ذاك البلد الأصيل، أدركت أن للقهوة مذاقين: مذاقٌ مرٌ، لا زلت لا أستطيع التأقلم معه بشكل كاملٍ، ومذاقٌ حلوٌ كالعنبر المصري فيه طابعٌ مسكيٌ، يحدثك حول تاريخ تشبثٍ بالأرض ليومنا هذا!

فما بين فنجانِ قهوةٍ وآخر، ضاعت البلاد، وما بين فنجانِ قهوة وآخر، حوفظ على ما تبقى من البلاد، فاحذر يا عزيزي القارئ، لمن تقدم قهوتك، واحذر أكثر عند من تحتسي قهوتك.

فالنكبةُ إن أضفتَ لها فنجان قهوةٍ عند الذليل ستسمر، وإن أضفت لها فنجان قهوةٍ عند الكنعاني ستنتهي!

وكل فنجانِ قهوةٍ ونحن للوطن أقرب، ونحن بالوطن أجدر، ونحن بالوطن أعلم، ونحن بالوطن أقدر.


الصورة المرفقة لمجموعة من الفلسطينيين في مقهى في مدينة يافا قبل النكبة. من موقع: Palestine Remembered

أحمد ياسين

ناشط شبابي من مدينة رام الله، حاصل على شهادة الماجستير في تنمية المجتمعات الدولية، بتركيزٍ على تأثير الحركات الاستعمارية على المجتمعات وطرق تنميتها. يعتبر أحمد أحد الممثلين عن الشباب الفلسطيني في المحافل المحلية والدولية، وقد تحدّث عن فلسطين والقضية في مجلس الأمن، ومقر الاتحاد الأوروبي، وغيرها من المنصات الدولية والمحلية. يترأس أحمد مجلس إدارة مؤسسة الرؤيا الفلسطينية في القدس، وينشط مع مؤسسات الأمم المتحدة للمشاركة في تعزيز دور المرأة العربية والفلسطينية وتمكين مشاركتها.

شاركونا رأيكن.م